على الفعاليات الوطنية، والمؤسسات والأطر البلدية، بذل ما يمكنها لتمكين المجتمعات الأهلية ورفدها بمقومات الاستقرار والنهوض، والنظر إلى هذه المجتمعات باعتبارها القاعدة العريضة للمجتمع عامة المجتمع الأهلي ليس تعبيراً رديفاً للمجتمع المحلي، فهذا الأخير يشير، كمفهوم، إلى دلالات، أو مضامين، عرقية - ثقافية محددة، متصلة تاريخياً، ومؤطرة أو متمركزة مكانياً.. كذلك، لا يعد مصطلح المجتمع الأهلي تعبيراً رديفاً للمجتمع المدني، فالثاني يشير إلى مجتمع المؤسسات (أو التكوينات المدنية)، التي تفرزه وظيفياً (أو أفقياً عاماً)، وتعمل على تنسيق أنشطته وتنظيمها.. وكذلك، ليس اصطلاحاً رديفاً للسكان أو الشعب أو الأمة. وعلاقته بهذه التكوينات هي علاقة الجزء بالكل. يستمد المجتمع الأهلي وجوده التكويني من أصل وجود الناس واجتماعهم في مكان واحد، بيد أن مجرد التجمع في حيز معين لا يعني قيام مجتمع أهلي على نحو تلقائي. هذه قد تكون البداية التي ربما يولد في ضوئها هذا المجتمع. إن المكان والزمان يلعبان سوية دوراً حاسماً على هذا الصعيد.. ومن الممكن أن يولد مجتمع أهلي في مدينة تأسست قبل بضعة عقود، وجاء سكانها من مناطق قريبة، لكن مثل هذا المجتمع يصعب تشكله في مدينة متروبولية، وهنا، يجب التفريق بين أصل تكوين المدينة وبين تطوّرها العمراني واتساعها اللاحق، فهذا التطوّر والاتساع يحجبان صورة المجتمع الأهلي ويحدان من دوره، لكنهما لا يلغيان أصل وجوده، وهو قد يتموضع جغرافياً في النواة الأولى للمدينة أو في أحيائها الأكثر قدماً. وفي مدن الشرق، ما زال المجتمع الأهلي حاضراً، يمارس دوره التقليدي في رسم صورة الحياة العامة، وتبقى القرى و"البلدات" وعاءً تقليدياً للمجتمع الأهلي، ومرجعية له، في الأعم الأغلب. وكيف يحافظ المجتمع الأهلي على تميّزه؟ هناك بعدان لهذه القضية: بُعد التأصيل وبعد المواكبة. في التأصيل، يجب التأكيد، على نحو دائم، على منظومة القيم المؤسسة للمجتمع الأهلي، بما في ذلك روابط القربى والجيرة والتضامن الاجتماعي. هذه روابط متأصلة لكنها مكتسبة، وهي معرضة تالياً للاهتزاز نتيجة عوامل مختلفة، بما في ذلك زيادة وتيرة الهجرة الداخلية، والتحولات الاقتصادية الكبيرة، والانكشاف الثقافي، بل وحتى التغيّرات البيئية قد تعكس نفسها على هذا الصعيد. وفي الأصل، فإن المحافظة على القيم الناظمة للمجتمع الأهلي تشير إلى أصالة دينية وحضارية عريقة. على مستوى المواكبة، أو مواكبة العصر، لا بد من الأخذ بالأسباب المعززة لمنظومة القيم الناظمة، والمطوقة للعوامل الضاغطة عليها.. إن عصر الثورة الرقمية يمثل على هذا الصعيد سيفاً ذا حدين، فقد يكون أداة تفكيك للمجتمع الأهلي، وتذويب للروابط المؤسسة له، وقد يكون عامل تعزيز له. هنا تأتي قضية المواكبة والاستجابة لمتغيّرات العصر. الثورة الرقمية هي في الأصل عامل ربط (أو أداة اتصال) بين الأفراد. وعوضاً عن الربط العشوائي، وغير المجدي أحياناً، يُمكن أن يكون هناك ربط نافع، يدفع باتجاه تأكيد القيم والحث عليها والتذكير الدائم بها. إن الشبكات العنكبوتية، بما في ذلك شبكات التواصل الاجتماعي، التي أضحت مؤثرة على نحو فريد، تبقى ذات دلالة على هذا الصعيد. والعبرة ليس في مجرد وجودها بل فيما تحمله من رسالة ومضمون. ولا بد من النظر إليها، على مستوى المجتمع الأهلي، كمنبر توجيه وإرشاد، لا مجرد تقليد للآخرين، أو مكان للمجاملات، أو الحكايات المسلية. وهذه، على أية حال، مسؤولية النخب المتنورة في عموم القرى والبلدات والمدن. ومن المحافظة على هوية المجتمع الأهلي إلى صون ذاته؛ ما الفرق بين الأمرين؟ المحافظة على الهوية تعني إدامة العوامل المشكلة لها. أما صون الذات فيعني حمايتها من شتى الأخطار الوجودية. وما هي الأخطار التي تواجه المجتمعات الأهلية اليوم؟ تتجسد أول هذه الأخطار في منطق الغلو والتطرف. في القرى والأرياف، على نحو خاص، تطبعت الناس على حب الآخر، وتقديره واحترامه وإكرامه. ويجري النظر إلى ذلك كجزء من الشيم والأصالة. إن منطق التطرف هو منطق نقيض تماماً. إنه يقوم على أساس الشك في الآخر والريبة منه، وغالباً ما يجري تخوينه لمجرد تباين الرأي، أو اختلاف الفكرة، مهما بسطت. ومن ينشر التطرف، ويروج لمنطقه الجانح، فهو يفتك بالمجتمع عامة، وينسف على وجه خاص الأسس التي ينهض عليها وجود المجتمع الأهلي. وإذا كنا بصدد بلدة وادعة، متآلفة فيما بينها، فعلينا الانتباه إلى خطورة وصول الفكر المتطرف إليها، لأنه سوف يقضي بداية على سكينتها، ويقود تالياً إلى زرع عوامل الشقاق بين بيوتاتها وأسرها. إن المجتمعات الأهلية، في كافة القرى والبلدات، عليها أن تكون يقظة إلى تسرب الأفكار الضالة والجانحة. هذه المسألة، بالذات، تعود بنا إلى الشبكات العنكبوتية وقنوات التواصل الاجتماعي. فهذه الشبكات والقنوات لا بد أن تمارس اليوم دوراً مباشراً في تنبيه الشباب إلى خطر الفكر المتطرف، وتعرفهم بكيفية تغلغله، وعليها أن تسمي الأشياء بأسمائها، بعيداً عن المجاملات. وهذه رسالة تتجاوز أهميتها مجتمع القرية لترتبط بعموم المجتمع. وفي القرية، لا بد أن تتكامل جهود العمل الأهلي مع جهود المؤسسات الخاصة والعامة، بما في ذلك الأندية والمدارس والبلديات والجمعيات الخيرية الكبيرة. لاحظوا، في التجربة الجزائرية مثلاً، وفي أوج مرحلة العنف والإرهاب، التي مارستها الجماعات المتطرفة في تسعينيات القرن العشرين، استطاعت كثير من القرى النأي بأبنائها عن شرور الضلال والفتنة، بفعل حكمة القوى المؤثرة فيها، من علماء دين وزعماء عشائر ومثقفين. إن التجربة الجزائرية تتكرر فصولها الآن، على نحو أو آخر، في دول مثل سورية والعراق والصومال. وأياً كان الأمر، فأصل الفكرة تكمن في الحذر من منطق الغلو والتطرف، وأخذ الحذر من تسربه إلى المجتمع، وخاصة جيل الشباب. وكما الأخطار ذات الطابع الثقافي والقيمي، التي تواجه اليوم العديد من المجتمعات الأهلية في البلاد العربية، كذلك تبرز الأخطار والتحديات "الحياتية" هي الأخرى كعامل تقويض لاستقرار هذه المجتمعات، ومن ذلك على وجه الخصوص تراجع مكانة الاقتصادات المحلية، وخاصة الزراعة، لمصلحة صناعات وخدمات وطنية أو عابرة للدول. وينطبق هذا الوضع على دول كانت توصف يوماً بأنها سلة غذاء عربية. ومن الأخطار أيضاً أزمة التطرف المناخي، وغياب السياسات الوقائية على مستوى المنطقة، والشرق الأوسط عامة. وحيث تتعرض المجتمعات الأهلية (المحلية) لصنوف شتى من التحديات الوجودية، التي تقوّض استقرارها. وما يُمكن قوله، على نحو عام، هو أن الظروف الراهنة تحمل للمجتمعات الأهلية صوراً متقابلة من الفرص والتحديات. بعضها تقليدي وكثير منها لم تعهده من قبل. والمطلوب اليوم هو التأكيد على السياسات الداعمة لسلامة واستقرار هذه المجتمعات، وضمان نموها وتطوّرها الحضري، والثقافي والقيمي العام، ومساعدتها على مواجهة الأخطار التي تعترضها، سواء منها ذات الطابع المعنوي أو المادي. وعلى الدول العربية الإفادة من تجارب العالم الخاصة بتنمية المجتمعات الأهلية (المحلية)، ويرتبط هذا، بوجه خاص، بتطوير واقع العمل البلدي، وربطه بالحياة اليومية للناس، ليس على المستوى الخدمي التقليدي وحسب، بل كذلك على المستوى الاقتصادي والتنموي الأكثر مغزى، كإقامة المشروعات العمرانية في القرى والهجر عبر التمويل الخاص، وجذب الاستثمارات المختلفة للبلدات، وفقاً للمعطيات الاقتصادية والاجتماعية السائدة. وعلى العمل البلدي أيضاً أن ينهض بالمشروعات التعليمية والثقافية، بما في ذلك إنشاء المكتبات العامة، التقليدية والرقمية، وتوفير عوامل جذب الأهالي لقراهم وبلداتهم، وتمسكهم بها. إن على الفعاليات الوطنية، والمؤسسات والأطر البلدية، بذل ما يمكنها لتمكين المجتمعات الأهلية ورفدها بمقومات الاستقرار والنهوض، والنظر إلى هذه المجتمعات باعتبارها القاعدة العريضة للمجتمع عامة، الذي بها تتكامل قدراته وتتماسك هويته. وهذه مهمة وطنية سامية.