من المظاهر التي مرت علي في تراثنا العربي ظاهرة الإسراف في البذخ لدرجة السفه، وخير مثال على ذلك وقائع أحداث زفاف المأمون على بوران وكيف كانت الهدايا ترمى على الناس بالمنجنيق، وكانت الهدايا عبارة عن صكوك أراض زراعية وأحجار نفيسة ودنانير ذهب ودراهم فضة قيل إنها سكت خصيصا لهذه المناسبة حتى يقال إن هذا الزفاف وما حدث فيه هو سبب ضعف الدولة العباسية بعد ذلك. الغريب أن هنالك تلازما بين البذخ والشطط فيه، وبين انتكاس الحالة وتحولها فكم رأينا من ممارس للبذخ تتحول به الحال إلى نقيضها من فاقة وفقر، وقد مر علينا من بذخ فحجر عليه من قبل أبنائه وورثته ذكر التنوخي في نشوار المحاضرة وهو من الكتب المهمة في دراسة الحياة الاجتماعية في بغداد في الفترة العباسية المبكرة وقال : (حدثنا أبوالحسن البرسي، العامل بالبصرة، أن بعض بني إسحاق الشيرازي المعروف بالخرقي، ممن كان يعامل أم المقتدر، أسماه هو وأنسيته أنا، حدثه: أنها طلبت منه في يوم يقرب من نيروز المعتضد، ألف شقة زهرية خفافا جدا. قال: فبعثت في جمعها، الرسل تكدني بالاستعجال، والقهارمة يستبطئوني، حتى تكاملت، وصرت بها إلى الدار، فخرجت القهرمانة، فقالت: اجلس في الحجرة التي برسمك، واستدع الخياطين، وتقدم أن يقطعوا ذلك أزراراً على قدر حب القطن، ويحشونها من الخرق، ويخيطونها، ليجعل بدل الحب القطن ويشرب دهن البلسان، وغيره من الأدهان الطيبة الفاخرة، وتوقد في المجامر البرام على رؤوس الحيطان ليلة النيروز بدلاً من حب القطن والنفط والمجامر الطين. ففعلت ذلك، ومضت تلك الثياب الكثيرة الأثمان في هذا. قال، وقال لي: كنت أشتري لها ثياباً دبيقية، يسمونها ثياب النعال. وذلك أنها كانت صفاقاً، تقطع على مقدار النعال المحذوة، وتطلى بالمسك والعنبر المذاب، وتجمد، ويجعل بين كل طبقتين من الثياب، منذل كالطيب ما له قوام، ونحن نفعل بطاقات كثيرة كذا، وتلف بعضها على بعض، ثم تصمغ حواليها بشيء من العنبر، وتلزق حتى تصير كأنها قطعة واحدة، وتجعل الطبقة الأولى بيضاء مصقولة، وتخرز حواليها بالإبريسم، ونجعل لها شركاً، من إبريسم كلها، كالشرك المضفورة من الجلود، وتلبس. قال: وكانت نعال السيدة من هذا المتاع،لا تلبس النعل إلا عشرة أيام، أو حواليها، حتى تخلق، وتتفتت، وتذهب جملة دنانير في ثمنها، وترمى، فيأخذون الخزان، أو غيرهم، فيستخرجون من ذلك العنبر والمسك فيأخذونه. وهو يساوي جملة الدنانير) ويقال في رواية قد شكك بها التنوخي نفسه أنها هي التي صنعت جدولا من الطيب والمسك والعنبر وعملت من الغالية الملثوثة ما يشبه الطين وسارت جواريها إلى هذا الجدول لتعبئة الجرار بهذا العنبر ما تسبب في أزمة في أسعار الأطياب إلا أن صاحب نشوار المحاضرة ينقل على لسان مجموعة من أصحاب الأخبار إنكار هذه الحكاية، وكما نعلم في المشهور أن حكاية الطين من المسك والكافور قد ذكرت في أخبار المعتمد بن عباد حينما تمنت عليه محبوبته الرميكة وبناته أن يسرن حفاة الأقدام على الطين كما هي حال المرأة المسنة التي تفعل ذلك في الشارع فلث لهن المسك والعنبر وأطايب العطور بالكافور في صحن القصر حتى بدا كالطين فسرن عليه، والغريب أن مثل هذا البذخ المذكور لأم المقتدر يذكر معه دائما حكاية ولدها المقتدر حينما أتاها يرجوها أن تمنحه شيئا مما تملك من ذهب وفضة لكي يدفع رواتب الجيش، الذين هم بالمقابل يضغطون عليه في كل حين. فرفضت أن تهبه شيئا وخرج وهو يقول إنك ستقتلينني، وهذا ما حدث حيث قتله الجيش ونصبوا أخاه خليفة ، ثم ذهب جاهها كأم للخليفة المقتدر، وصدرت وعلقت منكسة، وعلقت من قدميها، وألزمت بالتنازل عن جميع أملاكها. حتى إنها كانت تستعطي الناس في شوارع بغداد فلا تخرج منه إلا بالقليل، أما المعتمد بن عباد فقد صور حالته في أغمات بعد أسره وسجنه فقال: فيما مضى كنتَ بالأعياد مسرورا فساءك العيد في أغمات مأسورا ترى بناتك في الأطمار جائعة يغزلن للناس ما يملكن قطميرا برزن نحوك للتسليم خاشعة أبصارهن حسيرات مكاسيرا يطأن في الطين والأقدام حافية كأنها لم تطأ مسكاً وكافورا وكما نرى في هذه الأبيات اللوعة والحزن بسبب تغير وتبدل الأحوال فبعد العز والسلطة والثراء تحول جميع ذلك إلى نقيضه، ومثل هذه النماذج التي أوردناها هنا يوجد لها شبيه في جميع أطوار التاريخ الإسلامي والعربي، والغريب أن هنالك تلازما بين البذخ والشطط فيه، وبين انتكاس الحالة وتحولها فكم رأينا من ممارس للبذخ تتحول به الحال إلى نقيضها من فاقة وفقر، وقد مر علينا من بذخ فحجر عليه من قبل أبنائه وورثته، كما مر علي أخبار من بذخ فأصيب بنفسه وماله، وهي من الأشياء العجيبة. أما في هذا الزمن فقد انتهى على سمعي أخبار من بذخ فتحولت أحواله إلى النقيض وقد سمعت أن هنالك رجلا عصاميا، قد بنى ثروته بكده وتعبه إلا أنه أصيب في أواخر حياته بداء البذخ وفي احتفال تزويجه لأحد أبنائه قد صرف فيه أموالا طائلة، وأخبرني أحدهم أن السيارات كانت تغرز في الرز، وكان فائض الأكل يرمى كما هو في حاويات النفايات، المهم أن هذا الرجل قد توفي وخلف مالا لأبنائه فعبثوا في المال حتى أفنوه. وكما هو معروف أن ممارسة البذخ تنبع من مركب نقص يشعر به من يقع تحت سلطة مجتمعات تتحكم بها المظاهر، والغريب أن سلفنا الصالح إلى وقت قريب كانوا يحرصون على أعمال البر من خلال الوقفيات المتنوعة والنافعة للناس أكثر من حرصهم على السرف بل كانوا يعرفون قيمة ما يملكون وينفقون. [email protected]