لقد حصل في الفترة المتأخرة من زمننا ما لم يحصل فيما قبله من التاريخ، إذ كانت المساكن يجمعها سور واحد وتتجمع دورها متلاصقة كما لو كانت غرفا في قصر واحد أيضا، ويصدق عليها مسمى بيتنا الكبير متمثلا في قريتنا التي تجمعنا على أرضها وتحت ظل سمائها. مرت عشرات ومئات السنين بل قرون طويلة والحال كما هي لا تغيير يذكر ولا فرقة بينهم تسجل إلا في حالات طارئة نادرة كالسيول والكوارث الطبيعية أو الحروب والقلاقل التي يضطر معها السكان للتفرق هنا وهناك تاركين جبرا بلدانهم والدمع عنوان رحلتهم. وعلى اختلاف الأنماط التي تتكون منها القرى والهيئات التي تبدو عليها تلك التجمعات السكانية سواء في السهول أو الجبال إلا أنها تبقى المساكن في تجمع وارتباط عاطفي وألفة غير متفرق وفي لحمة سكانية واحدة. هذا الارث التاريخي جعل من عاش طويلا في قريته وفي داره القديمة كما الشجرة التي امتدت جذورها في التربة وارتفع ساقها قائما على تلك الجذور، لو قطعت لماتت الشجرة. هكذا هم كبار السن مضت سنوات أعمارهم بل أعذبها في دورهم القديمة، فيها تزوجوا وفرحوا، وأنجبوا أولادهم وأضافوا واستضافوا، فهم يرون فيها ميلاد كل أولادهم وطفولة كل واحد منهم وارتسمت في مخيلتهم تلك الصور يبتسمون كلما تذكروا مفرحها وتدمع عيونهم كلما مرت ذكرى حزينة. دورهم أصبحت جزءا لا يتجزأ من مشاعرهم وأحاسيسهم وعواطفهم لا يقدرون على مفارقة المكان ولا يتصورون الانعزال عنه.لقد جاء التحول الجديد في المساكن فجأة على هيئة مخططات مترامية متباعدة لم تكن معروفة فيما سبق ولا شبيه لها في تاريخنا مما جعل عملية الانتقال من القديم إلى الجديد ظاهرة، وهذه الظاهرة عادية ومفرحة لجيل الشباب الذين ارتباطهم بالماضي القديم أقل بكثير من كبار السن، بل قد لا يكون لهم ارتباط بالماضي مطلقاً. لهذا لا نستغرب أبدا رفض أحد الأجداد الذين ألفوا دارهم والحي الذي سكنوه في القرية القديمة أو الحي القديم، وترددوا سنين على المسجد وصار لهم صحبة هناك أن يتمسكوا بالماضي ولا يبادروا بالمسكن الجديد أو يفرحوا به، لأنهم والحالة تلك يتركون جذورا عميقة امتدت من عواطفهم وأحاسيسهم ومشاعرهم في عمق تربة دارهم القديمة، وبين دور جيرانهم وحول المزارع التي ربما لم يبق منها سوى جدران متهدمة، وبقايا شرفات مقاصير وأبراج لم يعد لها مهمة، لكن أرشيف ذكرياتهم مليء بالمواقف التي ترسمها كما لو كانت قائمة والناس من حولها يعملون ويروحون ويجيئون. الا يادار وين اهل الكرم واللابة الوافين صورهم في عيوني وين ما وجهت تبرى لي فرفقا بكبار السن لا تفصلوهم عن جذورهم وارحموا بقية باقية فيهم من الوفاء بماضيهم وتمسكهم بدورهم الطينية التي تشكل لهم كل شيء. يقول الشاعر فهد بن علي الحبيب: يا زين وقتٍ فات يا ناس زيناه يوم البيوت أثله ولبنه وطينه بيتٍ عليه العلم لا قام مبناه تقول نازلةٍ عليه السكينة مشرّعٍ بابه ومن جاه ينصاه ما هوب وقتٍ كلنا خابرينه فهذه الأبيات تعلل محبة الوقت الماضي والبيوت القديمة التي بناؤها من أثلة ولبنة وطينية، ليس بسبب موادها تلك ولكن لأنها تشعر من سكنها بالسكينة لما فيها من تآلف. ويقول الشاعر سعود بن جمعان، من قصيدة له حول الدار وذكريات الأمس. يادار لو باشكي وش يفيد مشكاي هبت هبوب وطرت معها كما الريش لقيت بيت الطين يبكي لمبكاي وينشد عن رجال لهم بالهوى طيش يقول وين اللي تمادوا على جفاي اللي عوايدهم فطاح على العيش وشفت الشعيب وريح نبته هو دواي من فيض دمعه يروي أهل المطاريش وجيت النخيل وقال وش هي خطاياي سنين وحنا صابرين معاطيش وطلح تمايل كنه فرح ملاقاي وبير مضى له وقت والدلو مانيش ياقو باسي كيف شالنّي خطاي صابر وقلبي ينهشنه نواهيش وقعدت أشيل الصوت في حين مرقاي في مرقب مدهل لمن به نغاميش وفكرت في دنيا له اقبال و اقفاي تمسي له بقوم وقوم مغابيش من ظن بها خير فهو تايه الرأي دنيا الفنى تفني ملوك ودراويش ولا يقف الشعر عند وصف البناء ولا يصور الواقع سوى الشاعر الذي عاش فترة من الزمن بين ذاك الماضي وقارنه بما استجد، وحمل صورة لجمال تمنى استمراره، فمثل هذا الشاعر يعطي الوصف حقه، ففي قصيدة للشاعر عبدالعزيز بن حمد العريني، السبيعي، حول ذكريات الأمس وبيت الطين نعيش الصورة المبكية حقا حيث يقول: على ذكرى الزمان اللي مضى لي هل دمع العين تذكرت السنين الأوله والدمع همالي تلج بداخلي ذكرى ربوعي والزمان الزين و وقتٍ فات يوم إني من هموم الزمن خالي يورى في عيوني مجلس الشايب وبيت الطين مداهيل الرجال اللي لهم بالطيب منزالي مجالسهم مجالس للشجاعة والوفا والدين تنومس راعي الطالة ويلقى حيل وادلالي ماهي مثل المجالس ذا الزمان اللي قبوله شين ماغير السالفة وسط السياسة واسهم المالي انا وقفت بأطلال البلد وقفة غريم الدين علامات الحزن فوق الديار وصرت مهتالي أسولف مع هجوسي وانشد الخاطر بحين وحين زمان أول لحقته صدق والا هو يورى لي اخذت بسجتي ساعة بعد مافقت مدري وين زواني هم قلبي عقب جيت الدار بلحالي غدت عيد النخل صرعا وطاح السور والبرجين تصدع وانهدم جنبه وزرنوق اللزا مالي ولا باقي سوى السدرة و الاثله تبكي الماضين وجنب البركة الرستم حديد مصدي بالي تكلم عن زمانٍ راح يوم المد عن عشرين تريد بها الثنا مادورت به قرش وريالي زمانٍ راح ما يمكن يعود وطق فيه البين ولا باقي سوى الذكرى ولو هي نقّصت حالي نشدت الدار عن ربعٍ حموها فالقسى واللين أبي منها الجواب اللي عرفته قبل يعطى لي الا يادار وين اهل الكرم واللابة الوافين صورهم في عيوني وين ما وجهت تبرى لي وانا اعرف الجواب بس سلي خاطري تكفين أبي منك المواسى لا تحديني على الصالي و اداوي جرحي اللي وسط جوفي فوق عشر سنين على فقد النشامى كل غالي يتبعه غالي بكيناهم بدمع حرق الجفنين والخدين ولو كان البكا مارد لي عمي ولا خالي بكيناهم وحنا ندري إنا عقبهم ماشين ترا دنيا الفنا ميقاف منزال وترحالي تروح أيامنا عجله وحنا مثلها عجلين ولا ندري متى وقت الرحيل وحد الآجالي و يقول الشاعر علي الفيفي في حنينه لبيت الطين القديم ومقارنته بما استجد حتى ناطحات السحاب: بيت الحجر والطين تصميم الأجداد عندي يساوي ناطحات السحابة فيها الوناسة والتواضع والاجواد رمز الأصالة والصدق والنجابة ونختم بقول الشاعر عبدالله سليمان العمار، وهو في أبياته يتشوق لماضي القرية ودورها وطرقها وسككها: يشوق العين شوف اللي بقى من شامخ الاطلال وألاقي في سككها كل ذكرى عشقها غالي أسوق اقدام شوقي للبيوت وخاطري مازال يعيش بشوفهن ذكرى طفولة تحفظ آمالي عزيزة يا بيوت الطين لك وسط الحشا منزال امرك واترك دموع الغلا تحكي لك احوالي الابواب دوم مفتوحة (مشرّعة) للضيوف ذكريات بيوت الطين مازالت عالقة في أذهان كبار السن