لعلهُ من المناسبِ أن أذكرَ هذا الموقفَ الذي حدث معي حين كنت أتناولُ العشاءَ مع أفرادِ أسرتي ونحن نستمعُ إلى نشرة الأخبار-ولا أعلمُ كيف كنا وما زالنا وغيرنا كثير يستسيغُ تناول الطعام وهو يستمعُ إلى نشراتِ الأخبار- حتى ورد خبر عن( ألبانيا المسلمة) ويقول الخبر ان مستشفى للأمراض العقلية والنفسية قد تحول إلى ملجأ ومخبأ شتوي للمشردين والفقراء وذلك بسبب موجة رياح شتائيّة جليدية ضربت البلاد. وعرضوا صورا لاختلاط المشردين بالمرضى النفسيين في منظر بائس ومؤلم حيث كل منهم يخاف الآخر، فالمشردون يخافون من -المرضى المجانين!–، والمرضى يبدو عليهم الفزع والذهول! كان الخبر بكل ما حمل من صور وتقارير إخبارية بحتة خالية حتما من نبض حسي كصاعقةٍ هوت في سويداء قلبي ووجدت نفسي أجهشُ بالبكاء وتنهمرُ دموعي على الأطباقِ التي أمامي وأكوابِ الشاي وفي محاولةٍ يائسةٍ حاول الجميع تهدئتي وإقناعي بإكمال عشائي وأنا أشعرُ بأن في إصرارهم على استكمال الحياة وليس العشاء فقط نوعاً من اللاإنسانية ، وصعدت إلى حجرتي وأنا لا أرى إلا صور العراةِ من المشردين يلوذون بالمرضى في مشفى لا يناسبه مُسمّاه لا من قريب أو بعيد وعكفتُ على مكتبي أكتب وأكتب وأكتب ودموعي تعيقني كثيرا لكن لا هي تتوقف عن الانهمار ولا أنا أتوقف عن الكتابة، ولا أدري أكنت أكتب وجعي ومصابي في أمتي ومجتمعي وأسرتي ونفسي؟ أم كنت أكتب مصابَ المسلمين هناك من مشردين ومرضى وغيرهم؟ عنونتُ ما كتبت ب(صرخة تتناقلها زوابع الشتاء)، إلا أن صرختي ظلت حبيسة صدري، وورقتي ظلت حبيسة أدراجي ولم يفلح الشتاءُ بزوابعه على أن يوصلها حيث ينبغي! ومع هذا لم تغادرني ذاكرة الألم والوجع الذي حل بي وبهم ذات نشرة إخبارية! مصابنا الجلل هو –فداحة الإحساس– لكنه ورغم فداحته يبقينا على قيد الإنسانية والآدمية ضمن حيز الشعور والإحساس في وقت باتت الإنسانية تغتالها مطامع البشر وهموم الصراع على لقمة العيش ولا يبقى خارج هذه المعركة الشعواء إلا الشرفاء وأصحاب الضمائر الحيّة، وأنا هنا أحمل لكم بشارة! يا أشقاء النبض نحن ومن هم على شاكلتنا الحسية بالرغم من كل ما يعتريهم وبعمق أعرف منتهاه، نحن من ينضحُ بالأمل ويرشحُ بالتفاؤل ويستقي من معين الحكمة والصبر.. نحن شركاء مواسم الربيع والخصب من يربتُ على الأكتاف، ويشحنُ الهممَ ويقود الضالين والمتعثرين لدروبِ الخضرةِ والثورةِ والنجاح! أرواحنا المكبلة ما تلبثُ أن تعانق الأمل وتحلّقَ في سماواتنا ترسم الغيم وقوس المطر، ذاكرتنا المصفدة ستستعيد لون الربيع ورائحته وفراشاته وستسكبُ أقداح الفرح لكل الموجوعين والمقهورين آهاتنا وأنّاتُنا كانت وستبقى محل ولاء ووفاء كل من احتواه إحساسنا واعتراه نبضنا.. وقد أحببتُ أن أقتطفَ من بساتينِ البوح أكاليلَ التفاؤلِ واليقين بالربيع الذي بذرناه في أرواحنا وتعهدناه بالري والرعاية ليورقَ أيما إيراق. أتمنى لكل الموجوعين أن يجعلوا تفاؤلهم يتغلب على يأسهم، وفرحهُم ينافس دموعهم بالإحساس أيضًا، ومع كل هذا أعتقد أننا لا ندركُ أن مفتاح الأمل مخبأٌ بأرواحنا نستنجد به دومًا لنتنفس ذات النقاء الذي نتوق إليه! لا بأس يا رفقاء اللحظاتِ المتوهجةِ فرحًا ووجعًا وصدقا! دمتم سليمين معافين من كل مرض ومصاب وهمّ ووجع وأدام الله علينا نعمة الإحساس والطهر والنقاء.