1 استيقظت صباحاً على «تخشّب» في حلقي، قلقت... فأنا لا يهزمني شيء مثلما يهزمني الرشح والأنفلونزا. (لم أقلق من أن تكون انفلونزا خنازير، فأنا أعاني ما يكفي من انفلونزا البشر!). ولأني في خضم مؤتمر اليونيسكو الذي لا يرحم، فلم أكن مهيئاً للمماطلة لاختبار مناعتي ومقاومتي الذاتية. ذهبت إلى الطبيب، دخل في حلقي وأذني ّ ثم قال: لديك التهاب بكتيري حاد في الحلق، تحتاج إلى مضاد حيوي وراحة. تعجّب الطبيب حين أخبرته بأني جئته من قاعة الاجتماعات، وليس من قاعة النوم، وسأعود من العيادة، ملزماً، إلى قاعة الاجتماعات أيضاً.a قال الطبيب: لو كان هذا الالتهاب الذي أراه في حلقك عند شخص آخر لربما استدعى الطبيب إلى منزله وهو على فراش المرض. شكرت الطبيب على إعجابه بنضالي وكفاحي. 2 خرجت من العيادة وأنا أفكر: هل أنا صبور حقاً؟ يأتيني هذا السؤال نابعاً من سؤال آخر أشمل وأعقد: هل الألم الذي أشعر به في حلقي هو نفس الألم الذي يشعر به شخص آخر مصاب بنفس التهاب الحلق؟! سنفترض أن لدينا شخصين يتمتعان بنفس الوزن والعمر، ثم أصبناهما، مخبرياً، بنوع واحد من البكتيريا أو الفيروس. ثم بدأنا بتدوين المتغيرات عليهما: نسبة التهيّج في الحلق مثلاً، مقدار ارتفاع درجة حرارتهما، الخمول الذي يعتريهما. السؤال الآن: هل الألم الذي يعانيه كل منهما متماثل؟! هنا تكمن عقدة: الصبور والدلّوع! من الصعوبة قياس مستوى الألم الحقيقي بناء على تشابه مصدر الاصابة الأصلي، وذلك بسبب وجود متغيرات أخرى: مستوى المناعة لدى كل منهما، متانة الأغشية والأنسجة، وحساسية الأعصاب المرسلة لإشارات الألم لديهما. الإحساس بالألم يشبه إلى حد كبير الإحساس بحرارة أو برودة الطقس. ففي مدينة حرارتها ذلك اليوم 30 درجة مئوية، ستجد شخصين أحدهما يشكو من الحر وآخر من البرد، وثالث بجوارهما يتغنى بهذا الطقس الربيعي المعتدل! كثيراً ما نردد عن بعض أقاربنا أو أصدقائنا: أن فلاناً لا يمرض إلا أحايين قليلة لكنه إذا مرض يمرض بشدة ويعاني آلاماً مبرحة. ونحن لا ندري: هل هو حقاً يمرض بشدة بعد طول العافية، أم لأنه لا يمرض إلا قليلاً، فهو يفاجأ بأحاسيس الألم التي ألفها الآخرون الذين يمرضون أحايين أكثر منه؟! وفي أمثال العرب: (لا وجع إلا وجع العين ولا هم إلا هم الدَّين) و (لا وجع إلا وجع الضرس ولا هم إلا هم العرس). ولا أحد يجزم أيهما أشد: ألم العين أم ألم الضرس؟ وعليه يمكننا أن نقترح صيغاً جديدة للمثل: (لا وجع إلا وجع الراس ولا هم إلا هم الناس) و (لا وجع إلا وجع العظام ولا هم إلا هم الإمام)! 3 مررت بتسع تجارب جراحية في رجلي منذ الصغر، لكن أبرزها كانت حفلة جراحية جماعية، قبل 17 عاماً، على يد طبيب عظام روسي. كنا ثمانية من الضحايا في غرف تنويم متجاورة، والطبيب / الجزار يمر علينا كل يوم ليسمع ألحاناً متفاوتة من التشكي والتأوه. بعض المرضى الثمانية يكاد يلطم ويهدد بالانتحار من شدة الألم، وآخرون يتأوهون باستحياء ويتألمون بذوق! وكنت أتساءل أمام تلك العينة الجماعية من المتألمين: هل هؤلاء أكثر صبراً أم أقل ألماً من أولئك؟! إذا أيقنا أن الألم نسبي، فهذا يعني أن الصبر أيضاً نسبي. 4 أخي الأب .. أختي الأم، لا تتسرعوا في وصف أحد أبنائكم بالصبر والآخر بالدلع، فالمسألة أعقد من هذه الأحكام الجاهزة! طبيبي العزيز... لا أدري إن كان وصفك لي بأني صبور هو وسام أستحقه أم لا؟ لكن يكفيني منك وسام أن الانفلوانزا التي أعانيها الآن ليست انفلوانزا خنازير، فاسم هذا المرض هو أشد أعراضه ألماً! *** سيتألم بعض أصدقائي من هذا المقال، ويقولون لي: ما دخلك في الألم والصبر والمرض؟ وسأجيبهم بأني أكتب مقالي هذا وأنا على فراشي، وبجواري البنادول والأموكسيلين وفيتامين سي، والفيتامين الأكثر فعالية: زوجتي، والدلع والصبر والألم. فهل تريدونني أن أكتب في هذه الحال عن الممانعة اللبنانية أم النووي الإيراني أم تقرير غولدستون المفرح، الذي «عبّسته» القيادة الفلسطينية؟! كاتب سعودي [email protected]