ما يُمكن قوله خلاصة، هو أن واقعا معيشيا اجتماعيا جديدا قد ولدته الحرب الدائرة في سورية، وأن سياسات عدة يجري اعتمادها اليوم من قبل مختلف القوى لمواجهة هذا الوضع والتكيّف معه لقد كتب الكثير حول الليرة السورية في ظل الحرب. ودائماً، ما جرى إحالة تراجعها إلى تضرر القطاعات الإنتاجية والخدماتية. وعلى الرغم من ذلك، هناك عوامل مباشرة قلما تم التوقف أمامها، من بينها حروب المضاربة، والتوسع الكبير للسوق السوداء، والضغوط المتأتية على الحركة التجارية نتيجة العقوبات الدولية. في المحصلة، فقدت العملة قوتها، لتتجاوز سقف الخمسمئة ليرة للدولار، في حين كانت دون الخمسين قبل اندلاع الأزمة. ومن أجل الحد من الخسائر والتقلبات التي شهدتها الليرة مقابل العملات الأخرى، جرى التدخل المتكرر في سوق القطع، ذلك أن استقرار سعر الصرف في الأجل القصير يعتمد جزئياً على قدرة المصرف المركزي على تحقيق توازن بين أطراف هذه السوق.. كذلك، أعلن في تموز/ يوليو 2016، عن توجه يقضي بنقل التركيز على تلبية القطع الأجنبية من شركات الصرافة إلى المصارف بهدف ضمان الاستقرار النسبي في سعر الصرف.. وحيث ان المصارف تبيع وتشتري بشكل معلن على عكس مؤسسات الصرافة. واستناداً إلى وسائل الإعلام المحلية، فهناك سياسات تدخّل عديدة يمارسها المصرف المركزي. وهناك أيضاً إجراءات ذات صلة بالهيئات المعنية بالتجارة الخارجية ووزارات الاقتصاد والمالية وغيرها. وحتى اليوم، فإن التحكم في سعر العملة ظل في حالة تأرجح، إلا أنه يُمكن القول في الوقت نفسه إن السياسات النقدية والمالية لعبت مجتمعة دوراً في الحد من الخسائر. بموازاة ذلك، ثمة قناعة بأن السياسات الأبعد مدى ترتبط بإعادة إطلاق عجلة الإنتاج الصناعي والزراعي، الذي كان يُمثل قلب الاقتصاد السوري. وهناك أيضاً دعوات لخفض الاستيراد إلى الحدود الدنيا الممكنة. وعدم استيراد التضخم مع المستوردات. ومن منظور اقتصادي، فإن زيادة الإنتاج والتخفيف من الواردات يُعد الطريق الأساسي لزيادة إيرادات الخزينة وتراجع العجز المالي. ويُعرّف العجز المالي بأنه زيادة النفقات على الإيرادات العامة. وهو في سورية احدى النتائج الأساسية للحرب. وقد بلغت الموازنة السورية العامة 1980 مليار ليرة للعام 2016. وزادت على نظيرتها لعام 2015 بمبلغ 426 مليار ليرة، أو بنسبة 27,41%. وبلغت كتلة الدعم في موازنة 2016 ما مجموعه 1053 ملياراً، مقارنة ب 984 مليار ليرة للعام 2015. وهذا يشير إلى تداعيات الحرب. وكان الناتج المحلي الإجمالي قد شهد مرحلة نمو سلبي مستمر منذ العام 2011 وحتى عام 2013، مسجلاً معدل (-3%، -18% و-15%) على التوالي. كما بلغ معدل النمو السنوي للفترة الثانية (2011-2013) حوالي -16.5%. وخلال كامل السلسلة انحدر معدل النمو الاقتصادي إلى أدنى حدوده في عام 2012 (-18%)، بينما وصل الناتج الإجمالي إلى حده الأدنى في العام 2013، وهو حوالي 994 مليار ليرة سورية. وكان الاقتصاد السوري شهد مرحلة من النمو الحقيقي المستقر في الفترة بين عامي 2006 -2010، بمعدل وسطي قدره 5%. وكانت تلك إحدى أعلى نسب النمو المسجلة على مستوى إقليم الشرق الأوسط. اليوم، تضررت ركائز الإنتاج الوطني على نحو كبير. لقد بات القطاع الصناعي في طليعة المتضررين من الأزمة، ليس فقط جراء ما تعرضت له منشآته من تلف، بل أيضاً نتيجة للعقوبات الغربية التي عنته بشكل مباشر، فقد تعثرت سبل التمويل المصرفي والقروض الائتمانية. وبلغت قيمة الأضرار التي طاولت قطاع الصناعة السورية، بشقيه العام والخاص، ألف مليار ليرة، منها 493 مليار ليرة للقطاع العام، وذلك حتى مطلع العام 2016. وكانت قيمة الإنتاج في القطاع الصناعي السوري قد بلغت عام 2010 حوالي 635,5 مليار ليرة أي ما كان يعادل 12.7 مليار دولار تقريباً، شكل القطاع الخاص نسبة 76% منه، في حين بلغ إجمالي القيمة المضافة المتحققة 151.24 مليار ليرة، شكل القطاع الخاص منه نسبة 97% بحسب المكتب المركزي للإحصاء في دمشق. كذلك، عكست الأزمة نفسها على قطاع الزراعة والإنتاج الغذائي السوري، وتحولت سورية من مُصدّر أساسي للمواد الغذائية على مستوى الشرق الأوسط إلى بلد يعاني نقصاً في حاجاته الغذائية، وكان المزارعون السوريون يصدرون سنوياً ما يقرب من مليوني طن من الخضروات و212 ألف طن من المنتجات الحيوانية. ويعمل في الزراعة السورية نحو 20% من القوة العاملة (900 ألف عامل)، وخاصة في منطقتي الجزيرة السورية وحوران. ويعد القطاع الزراعي مورداً اقتصادياً لأكثر من 46% من السكان. وقدرت وزارة الزراعة السورية مجموع الأضرار التي لحقت بالقطاع الزراعي حتى نهاية عام 2015 ب220 مليار ليرة. وتفيد تقارير منظمات دولية، بأنه جرى تخريب العديد من الحقول وقنوات الري، ودمرت الكثير من الجسور الحيوية، وطرق الإمداد الداخلية. واندمج كل ذلك مع مفاعيل العقوبات الغربية التي أصابت الفلاحين السوريين في مقتل. وتفيد دراسة أجنبية حديثة بعنوان (سورية 2016) أن الحرب دمرت أكثر من 60% من البنية التحتية، كما انخفضت نسبة العاملين في قطاعي الصناعة والزراعة إلى 17% بينما نسبة العاملين في القطاعات الخدمية 83%. وإضافة إلى تضرر الإنتاجين الزراعي والصناعي، حدث انخفاض حاد في عائدات النفط. وهناك أيضاً الانعدام شبه التام لعائدات السياحة، حيث كانت هذه العناصر تشكل المصادر الأساسية في تمويل الموازنة. في الوقت ذاته، حدث انخفاض في الإيرادات الضريبية، المقتصرة حالياً على المتواجدين في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة. كما تراجعت عائدات جباية خدمات الماء والكهرباء في الكثير من المحافظات السورية. وفي المحصلة، ارتفعت معدلات التضخم إلى مستويات قياسية، لم يشهدها غالبية الجيل الراهن من السوريين. وهنا، جاءت طفرة الأسعار ولعبة السوق الموازي لتدفع جموعا كبيرة من المواطنين إلى خط الفقر أو قريباً منه، وتزيل ما كان يُوصف بالطبقة الوسطى. وفي هذه النتيجة تحديداً، اندمجت الحرب على العملة الوطنية مع العقوبات الاقتصادية الغربية، والتخريب الذي طاول القدرات الإنتاجية. وقد واجهت الهيئات الخاصة والمجتمع الأهلي الأزمة بمنظومة إجراءات، بدا بعضها طارئاً، لكنها رفدت السياسات القائمة فعلياً. وكان للمصارف الخاصة في السوق السورية دور في هذه العملية الاستثنائية على نحو ملحوظ. وبلغ إجمالي التمويلات الممنوحة من هذه المصارف حتى نهاية الربع الثالث 2015 نحو 352 مليار ليرة مقابل 264 مليار ليرة في نهاية عام 2014، مرتفعة بنسبة 33%. وحتى نهاية الربع الثالث من العام الماضي كان عدد المصارف الخاصة في سورية قد ارتفع إلى 14 مصرفاً، منها ثلاثة مصارف إسلامية. ويبلغ مجموع رأسمال المصارف الخاصة 77.4 مليار ليرة، مقسّمة على 774.7 مليون سهم، حيث تم توحيد القيمة الاسمية لتصبح 100 ليرة سورية. من ناحيته، يسعى مصرف سورية العقاري للتوسع في قروض السلع المعمرة الذي أطلقه بداية العام 2016، والذي يستهدف شريحة ذوي الدخل المحدود بسقف 300 ألف ليرة، ولمدة ثلاث سنوات. كذلك، جرى اعتباراً من أيلول/ سبتمبر الجاري رفع سقف قروض الدخل المحدود الممنوحة من مصرف التوفير ومصرف التسليف الشعبي إلى 500 ألف ليرة. ورفعت مدة سداد القرض وفق السقف الجديد إلى 60 شهراً. وما يُمكن قوله خلاصة، هو أن واقعا معيشيا اجتماعيا جديدا قد ولدته الحرب الدائرة في سورية، وأن سياسات عدة يجري اعتمادها اليوم من قبل مختلف القوى لمواجهة هذا الوضع والتكيّف معه. والمطلوب من هيئات المجتمع الدولي زيادة دورها في السياسات الهادفة لتطويق التداعيات المعيشية والإنسانية للأزمة. [email protected]