لا يستطيع أي مجتمع أن يدير شؤونه وتنظيم العلاقات الإنسانية بين أفراده بدون وجود أنظمة، ولا يمكن وجود إدارة فاعلة، وتحقيق تطور شامل بدون تطبيق هذه الأنظمة بعدالة على الجميع. وعلى الرغم من أهمية النقد الذاتي، والقناعة بأن أهم خطوة في طريق حل المشكلات هي الاعتراف بوجودها، إلا أن من يسلط الضوء على مشكلات أو ظواهر اجتماعية معينة بهدف الإصلاح توجه له على الأرجح تهمة جلد الذات. هذه التهمة الجاهزة أصبحت تشكل عائقاً أمام جهود يدفعها الحب وتسعى نحو الأفضل. جهود تحاول بناء جسور قوية بين القيم والممارسات، وفي نفس الوقت تعمل من أجل تطبيق القوانين والأنظمة وليس إصدارها فقط. ما نتطرق إليه اليوم هو الكم الهائل من التنظير متمثلاً في المؤتمرات، الندوات، ورش العمل، برامج التثقيف، حملات التوعية، الخطاب الديني بقنواته المتنوعة. كل ذلك وغيره له أهميته ولكنه غير كاف لتحقيق الأهداف المنشودة وهي تطبيق الأنظمة والقوانين .. وضعت لهذا المقال عنواناً إيجابياً، لم أقل مشكلات أو أزمات. العنوان يهدف الى تطبيق الأنظمة والقوانين. ما نتطرق إليه اليوم هو الكم الهائل من التنظير متمثلاً في المؤتمرات، الندوات، ورش العمل، برامج التثقيف، حملات التوعية، الخطاب الديني بقنواته المتنوعة. كل ذلك وغيره له أهميته ولكنه غير كاف لتحقيق الأهداف المنشودة وهي تطبيق الأنظمة والقوانين والرقي بسلوك المجتمع إلى درجة الرقابة الذاتية في احترام الأنظمة، وتقدير الصالح العام، واحترام حقوق الآخرين. هذه الأهداف بطبيعة الحال لن تتحقق بصورة كاملة. هنا يأتي دور تطبيق القانون على المخالفات بدون استثناء. هذا الجانب يمثل الحلقة الضعيفة في كيان المجتمع، ومن المهم التنويه أن السلوك المخالف للقانون موجود في كل المجتمعات، الفرق بين مجتمع وآخر هو في تطبيق القانون. دعونا نسلط الضوء على بعض هذه المخالفات ونؤمل أن يتم تفعيل التعامل معها بالقانون وليس بالتوعية فقط، والحملات الموسمية التي لا نعرف مدى تأثيرها حتى الآن. حيث يوجد يوم عالمي لكل شيء ونتفاعل معه بشكل موسمي، ومع ذلك تتكرر الممارسات الخارجة على القانون، وتستمر المشكلات وكأنها تحجز لها مقعداً ثابتاً في برنامجنا السنوي، فلكل مناسبة نوعية مختلفة من المخالفات. ونكتشف أن بعضها يحتاج إلى سن قانون جديد. 1- إتلاف الممتلكات العامة: مؤلم أن تتعرض المشاريع الجميلة، والممتلكات العامة للتشويه والتخريب. هذا ما يمكن ملاحظته في الحدائق والمطارات والمستشفيات والأسواق والشوارع والدوائر الحكومية، بل وحتى في المساجد. هل يوجد قوانين تتعامل مع هذا السلوك؟ نسمع في الأخبار بين حين وآخر عن صدور قوانين تفرض غرامات على بعض السلوكيات مثل التدخين في الأماكن العامة، ورمي النفايات من نوافذ السيارة، وإتلاف الممتلكات. لكننا لا نلاحظ تطبيقاً صارماً لهذه القوانين. 2- المخالفات المرورية: هل نكتفي ب"ساهر" للتعامل مع المخالفات المرورية؟ ماذا عن السائق المستهتر الذي يضع الطفل بجانبه في المقعد الأمامي دون ربط حزام الأمان؟ ماذا عن المخالفات المرورية التي لا حصر لها ونشاهدها ونعاني منها يومياً دون محاسبة للمخالفين؟ ماذا عن الوقوف الخطأ وما يتسبب به من عرقلة لحركة المرور وفوضى قد تؤدي إلى حوادث؟ ماذا عن استخدام الهاتف الجوال أثناء القيادة؟ ماذا عن القيادة غير المنضبطة داخل الأحياء؟ وأخيراً كيف لم نتمكن حتى الآن من القضاء على ظاهرة التفحيط؟. 3- المخالفات الإنسانية والاجتماعية: هذا عنوان يندرج تحته مخالفات تتعلق بحقوق الإنسان. هنا نتحدث عن سلوك له علاقة بالتعصب، والعنصرية، والعنف الأسري، والإساءة للآخرين، والإسراف في الطعام، ونشر الشائعات، والتحرش الجنسي، وغير ذلك من الممارسات المخالفة للقيم الدينية وقوانين وأنظمة البلد مثل المخالفات المتعلقة بالعمالة الوافدة. بعض هذه القوانين والأنظمة موجودة وبعضها مؤجل أو تحت الدراسة وبعضها نكتشف فجأة أنها غير موجودة. ليتنا نستكملها ونعزز تطبيقها ونحاسب من يتهاون في تطبيقها. 4- السلوك الإرهابي: الأجهزة الأمنية ناجحة بامتياز في ملاحقة الإرهاب والقبض على منفذي العمليات الإرهابية، والإنجازات الاستباقية التي تمنع تنفيذ العمليات الإرهابية. هذه حقيقة. الجانب الآخر الذي يحتاج إلى تقوية وتفعيل هو الجانب الفكري، وتحديد منابع الإرهاب التي تحرض على التطرف، وتزرع الكراهية في نفوس وعقول الشباب فتدفعهم لمعاداة المجتمع بل والنفور حتى من أفراد العائلة. هذا النفور يتطور حد العداء والقتل لأقرب الناس إليه لمجرد الاختلاف في الرأي! من الذي غسل عقول الشباب؟ أين مصدر هذا الفكر المتطرف الذي يقود إلى سلوك إجرامي؟ منفذ العمل الإرهابي أداة تنفيذ. ولكن هل مازال الشريك في الجريمة وهو المحرض والممول في خانة "المطلوب للعدالة"؟ وكيف نتعامل مع هذا السلوك بالقانون؟. 5- المخالفات الإدارية: بيئة العمل في أي مكان بالعالم لا يمكن أن تصل إلى المثالية الكاملة. سوف تصادفك الرشوة، والواسطة، والشللية، والمحسوبية، وغياب العدالة، والغش التجاري، والعلاقات الإنسانية الضعيفة، والتسيب، والتسويف، وضعف مستوى الخدمات والتعامل مع المراجعين، وسرقة المبادرات والأفكار والمقترحات، والتعامل السلبي مع المرؤوسين، واستغلال المنصب الرسمي لأغراض شخصية. لا أقول إن هذا هو السائد وإنما ستكون موجودة بنسب مختلفة. الفرق بين بيئة عمل وأخرى يكمن في وجود سياسات وأنظمة واضحة. هل هذا يكفي؟ بالتأكيد لا يكفي؟ إذن المحك الحقيقي هو في المتابعة للتأكد من تطبيق تلك السياسات والأنظمة ومحاسبة من يخرج عنها بالقوانين المعتمدة للمنظمة. في عالم الإدارة وغيرها من المجالات نبحث عن بناء الجسور بين التنظير والتطبيق. نتحدث في الندوات عن الجودة في المنتجات والخدمات والتعامل الإنساني، وعلى أرض الواقع مخالفات تتطلب تطبيق القانون. ما هو القانون الذي يطبق على موظف عام أو رجل أمن ينشغل بجواله عن القيام بواجبات عمله؟. في بيئة العمل تضع بعض المنظمات دليلاً لأخلاقيات العمل تعلي مكانة الأمانة والنزاهة والانتماء والولاء والعدالة. هذا شيء جيد ويتضح الفرق بين منظمة وأخرى في مسألة التطبيق. في بيئة العمل قد يوجد ما يمكن تسميته بالمظاهر الإدارية، يندرج تحت هذه التسمية سلوك البذخ الإداري في تجهيز وتأثيث المكاتب والبهرجة الإدارية التي ليس لها أي تأثير إيجابي على الأداء والإنتاجية. وقد أصدرت وزارة الخدمة المدنية مؤخراً دليلاً لبيئة العمل المادية في خطوة يبدو أنها تهدف لتوحيد المعايير في الجوانب المادية لبيئة العمل. سوف أسعى للاطلاع على هذا الدليل للكتابة عنه خاصة أنه يتفق مع اهتماماتي بهذا الموضوع من خلال كتابي "بيئة العمل الإيجابية" الذي أتحدث فيه عن الجوانب الإدارية والإنسانية لبيئة العمل الإيجابية. يندرج تحت المخالفات الإدارية ما يتعلق بتوظيف العمالة الوافدة، والتوطين الوهمي، وبيع الأدوية في الصيدليات، ومسميات المحلات التجارية، ومخالفات سيارات الأجرة. وعن هذه الأخيرة أتساءل كيف لم نتمكن حتى الآن بما لدينا من إمكانات بشرية ومادية، ورغم تقدم التقنية من وضع تنظيم قوي وقانون -يطبق- لقطاع سيارات الأجرة؟ في كثير من الدول -على سبيل المثال- هناك عدد محدد من الركاب لسيارات الأجرة، إذا حاولت الحصول على استثناء، قيل لك: القانون لا يسمح؟ وقس على ذلك تطبيق القانون في المجالات المختلفة. الحديث عن المخالفات الإدارية يشمل تعامل بعض الشركات والمؤسسات مع العملاء بطريقة تغيب فيها حقوق المستهلك، وتغيب أيضاً حماية المستهلك، ولا يحضر فيها غير مصلحة الشركة. وفي حالة وجود شكوى من العميل تجاه ظلم لحق به فإن الشركة هي الخصم والحكم. لا يمكن تجاوز المخالفات الإدارية دون الإشارة إلى المخالفات والأخطاء التي تحدث في المستشفيات. والمخالفات المتعلقة بالبيئة، والنظافة، ومعايير الصحة والجودة في المطاعم والفنادق والشقق الفندقية. 6- المخالفات الإلكترونية: الثورة في عالم التقنية والاتصالات تحديداً، وظهور وسائل التواصل الاجتماعي نتج عنه سلوكيات غير مقبولة ومخالفات حتمت إيجاد قوانين للتعامل مع هذه المخالفات التي يصنف بعضها في خانة الجرائم الإلكترونية. كل الدول تسن القوانين لضبط المخالفات والجرائم الإلكترونية التي تهدد أمن وسلامة المجتمع وتحمي حقوق الإنسان، وأمن المعلومات. والمحك هو التطبيق. ما سبق من مخالفات هي مجرد أمثلة، وليس الهدف حصر المخالفات ولا التركيز على نصف الكأس الفارغ. الهدف هو تفعيل تطبيق ثلاثة عناصر وهي: إصدار القانون، ثم المتابعة، ثم تطبيق القانون. ثم نضيف إلى ذلك العنصر الأهم وهو إلغاء الاستثناءات. الاستثناء يضعف تطبيق القانون ويعطي الضوء الأخضر لاستمرار المخالفات بكافة أشكالها.