من بين أحزان الدنيا ولأوائها، وتتابع الكروب والحروب وتوَالِيها، تنبثق للمسلمين محطات الفرح، فاتحةً لهم نوافذ أمل، وتذكرهم بأنه وإن أحاط بالأمة ظلام "الجاهلية الحديثة" فإن طبيعة الإنسان "المسلم" ستتغلب على كل المتاعب والصعوبات، مفسرةً تفسيرًا عمليًّا قول باريها (فبذلك فليفرحوا) فإنه وإن سجمت العيون أسىً فإنّ من بين تلك الدموع دمعة فرح بهذه النعمة العظيمة والمنة الجليلة "نعمة الإسلام"، وهذه الفرحة المستديمة التي لا تنقطع عن القلب مهما أحاطت به فتن الدنيا ومتاعبها فإن تلك الفرحة هي وقود حياته، والدافع الأكبر له على البقاء ومكابدة الحياة، وما بين ذلك وذلك تتخلل حياةَ المسلم أوقات تمتزج فيها العبادة بالمرح والسعادة، لعلنا إذا عرفنا هديه وأحواله في سائر أيامه صلى الله عليه وآله زالت عن أفهامنا غشاوة، وعرفنا كيف كان يفرح صلى الله عليه وآله دون أن يمس ذلك الفرح من عزمه وجدّه، ودون أن يتعارض فرحه بأحوال أمته في كل البلاد التي انتشرت فيها رسالته وتتقلص فيها حدود المنع وتتوسع فيها النفس فيما أبيح لها، وتتجاوز عن بعض ما تتحاشاه في سائر أيامها!. وغداً يشرق واحد من تلك الأوقات التي تعانق فيها "فرحة المسلمين" بعيد الأضحى المبارك قلوبهم، فلعل سائلاً يسأل "كيف نفرح" ونحن في واقع مزرٍ، والحروب تتخطف الأمة من كل جهة، والدماء تنزف في كل بقعة؟ وليس ذلك السؤال بمستغرب، وستكون إجابة سؤاله من واقع رسول الله صلى الله عليه وآله، فهو الأسوة والقدوة، وهديه أكمل هدي وسيرته تسع كل مسلم!، فلننظر كيف كان رسول الله صلى الله عليه وآله، وأصحابه رضي الله عنهم كيف كانوا يفرحون؟. ألم تكن هناك حروب في زمنه صلى الله عليه وآله؟. ألم يكن هناك شهداء في كل ثغر من ثغور المسلمين؟. الجواب: بلى. إذن فكيف كانوا يفرحون؟. فلنقرأ ما رواه البخاري عن عائشة، رضي الله عنها، قالت دخل أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت الأنصار يوم بعاث، قالت وليستا بمغنيتين، فقال أبو بكر أمزامير الشيطان في بيت رسول الله: وذلك في يوم عيد، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله «يا أبا بكر إن لكل قوم عيدًا وهذا عيدنا». وفقه الحديث يطول شرحه وربما شمل أشياء قد لا تتوافق مع فقه كثير من النفوس المائلة للأخذ بالشدة والجفاء في كل أيام السنة على السواء! لا تفرق بين ما فرق فيه رسول الله صلى الله عليه وآله، ومع مفهوم قولها "وليستا بمغنيتين" فإنه منطوق أن الغناء صار وسيلة للتعبير عن فرحة العيد حتى عند من لا يمتهن الغناء أصلاً، وفي قوله صلى الله عليه وآله "دعهما" كما في بعض ألفاظ الحديث دلالة الإنكار على من فهم أن مرتبة العالم وذي الجاه مانعة لفرح غيره في حضرته، فليس هناك أعظم مرتبة ولا أرفع جاهًا من رسول الله صلى الله عليه وآله، كما أن أبا بكر خير هذه الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله، فليس هناك أحد أرفع من أبي بكر نتحاشى أن نقول له "دع الناس فإنه يوم عيد"!. ولكن تأبى طباع بعض من الفقهاء إلا أن يجعلوا هذا المفهوم والمنطوق من الحديث مقيدًا بما تسلكه أفهامهم من مسلك وعر في تفسير أحوال وأقوال أثبتها الثقات ودوّنها الحفاظ وشرحها الفقهاء في كتبهم. ومن ذلك ما رواه الشيخان عن عائشة رضي الله عنها قالت: رأيت النبي صلى الله عليه وآله يسترني وأنا أنظر إلى الحبشة وهم يلعبون في المسجد، فزجرهم عمر، فقال النبي صلى الله عليه وآله: «دعهم». فالأمر مستعظم عند كثير من الناس أن يكون اللعب في المسجد، ولكن ذلك لم يكن منكرًا في نظر أوسع الناس صدراً صلى الله عليه وآله، كل ذلك وغيره "فرحة" كانت حاضرة ولم يُسمع معها أصوات الإنكار لماذا تحتفلون؟ أو لماذا تغنون وتفرحون؟ في الوقت الذي يقاتل فيه المسلمون أعداءهم في الثغور وبطبيعة القتال هناك دماء وهناك شهداء؟ ولم تسمع أصوات تذكر الناس بمآسيهم في يوم فرحتهم وتحاول أن تصنع مجتمعاً عبوساً تظهر الأحزان على تقاسيم وجهه، ويتصنع إظهار التوجع في يوم عيده وفرحه، بينما في الحقيقة لا تعارض بين أن يفرح المسلم ليتزود من يوم فرحه ليوم همه وجدّه، ولو كان الأمر متعارضاً لكان أظهر ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله. فلعلنا إذا عرفنا هديه وأحواله في سائر أيامه صلى الله عليه وآله زالت عن أفهامنا غشاوة، وعرفنا كيف كان يفرح صلى الله عليه وآله دون أن يمس ذلك الفرح من عزمه وجده، ودون أن يتعارض فرحه بأحوال أمته في كل البلاد التي انتشرت فيها رسالته، فبكل اليقين، نستطيع أن نقول للمتسائلين "كيف نفرح"؟ نعم، رغم كل الظروف، وتحت وطأة الواقع المرير، يحق لنا أن نفرح. والله من وراء القصد.