منذ أن غنى الفنان الغريد محمد عبده أبيات الشاعر المبدع الامير خالد الفيصل: دستور يا الساحل الغربي فلّيت في بحرك شراعي يا موج هوّن على قلبي داعيه من شطكم داعي منذ ذلك اليوم الذي سمعت فيه هذه الأبيات ومنظر الساحل الغربي لا يغيب عن خيالي، ذلك أن لي في بحره ذكريات لا تنسى بين جزر البحر الأحمر وشواطئه وعبابه، ذكريات صيد واستمتاع بمظاهر البحر في ساعات السحر والشروق والغروب وما بينها، كنت مولعاً بالبحر الذي غادرته فجأة إلى ربى اليمامة مودعاً بحر جدة بأبيات مطلعها: يا بحر جدة سلام نجد تهديك السلام أرسلت زهر الربىَ وتسألك لون الشفق وتطور تعلقي بهذا البحر عبر قراءات عن تاريخ هذا البحر من أحداث وكفاح عشاقه من البحارة الذين كانوا حبال تواصل بين شاطئيه، متجاوزين غمره إلى بحر العرب والمحيط الهندي والخليج العربي وربما بلغوا أقصى من ذلك، لكننا لا نجد توثيقاً شاملاً لتلك الجهود غير ما استخلص من شعر وقصص ومرويات تثير الدهشة، وتبعث الحزن ألاّ يوجد تدوين لهذا التراث الذي لا بد وأن يصحبه إبداع في الصناعة البحرية، ونتائج علمية فلكية وملاحية، مثلما سجل لابن ماجد الذي كان أحد هؤلاء البحارة. واليوم ظهرت طلائع جيل يحاول استدراك ما فات، فأخذ بعض المثقفين ينفض الغبار عن تراث عريق يضرب في أعماق التاريخ منذ أن استخدم البحر في النقل ومنذ تحرك القوافل بين قارات العالم القديم. نعم قالها مثقفوا البلاد: دستور يا الساحل الغربي افتح لنا المجال لاظهار كنوزك وتاريخك. كان أحدث الكتب التي تناولت هذا الموضوع هو كتاب «أملج الحوراء من الألف إلى الياء» لمؤلفه الاستاذ مساعد حمزة القوفي، أحد أبناء أملج الذي تتبع تاريخ هذه المحافظة من نشأتها حتى حاضرها الذي يشهد نهضة شاملة امتداداً لما تشهده المملكة بعامة من تطور ورقي بدءًا من إعلان وحدتها الوطنية على يد المؤسس الملك عبدالعزيز رحمه الله ومتابعة أبنائه الملوك ورعاة النهضة وأبناء البلاد المخلصين ومؤسساتها الواعية، وقد ضمن المؤلف كتابه ببعض الصور الشاهدة على حاضر المحافظة المزدهر، مما يبشر بمزيد من الرعاية والمستقبل الباهر، فهذه المنطقة غنية بآثارها ومعالمها السياحية وشواطئها الذهبية التي تلبي تطلعات عشاق السياحة والاستمتاع بالبحر شواطئ وغوصاً ومتعاً لا تحصى. ركز الكاتب على طرح نبذ تاريخية عن المنطقة عبر العصور التاريخية منذ أن كانت الحوراء محطة للقوافل بين الشمال والجنوب وأحد روافد طرق الحرير، إلى يومنا هذه الذي يصل الحاضر بالماضي ويرسم للمستقبل ما تستحقه المنطقة من اهتمام ورعاية حيث أشار المؤلف على غلاف كتابه الى أنه «يسلط الضوء على رجال البحر في أملج الحوراء، والحقبة التاريخية التي عاشوها، والمهن البحرية التي امتهنوها، والقصص والأهوال التي تعرضوا لها، ومقتطفات من أشعارهم، مع لمحة تاريخية للمحافظة على مر العصور، وموقعها الجغرافي والحالة الاجتماعية لسكانها والمعالم السياحية والأثرية فيها". لقد أجاب المؤلف عن استفسارات تشغل القارئ اليوم، وتجنَّب الإبحار في عالم الباحثين والدارسين رغبة منه في تقديم وجبة سهلة الهضم تدفع للغوص في مظان الكتب لمزيد من المعرفة, ويبدو أن المؤلف محب للموروث الإبداعي أو سواه، فقد كان هاجسه كما يبدو مما تقدم تقديم جيل المناضلين من أجل طلب الرزق، ومن البديهي أن يصحب المحاولة إبداع ثقافي يعبر عن رؤى ثقافية وإدراك لأهمية تطوير أدوات الحياة والبحث عن قيمها المعنوية والمادية، وكيف كان سكان المنطقة يعيشون حياة بحرية وأخرى برية عندما تغلبهم حالات البحر الملاحية، فيلجؤون للبر في مواسم الربيع وعطاء الواحات. حياة عصيبة مليئة بالمنغصات التي يواجهونها بالصبر والقناعة والتكافل والرضا بما قسم الله من أرزاق وما أخذ من أرواح ومكاسب ابتلعها البحر، محتسبين ذلك عند ربهم. هذه الانطباع الذي هيمن علي وأنا أحاول أن أقدم جهد المؤلف في جمع مادة الكتاب وعرضها عرضاً شيقاً لا يجد إليك الملل سبيلاً وأنت تقلب صفحاته دفعني لأساهم مع المؤلف بتأكيد الدعوة لمضاعفة الجهود لدراسة ثقافة المنطقة وإبراز تراثها الذي تجاهل تدوينه زمن لم يكن يعي أهمية التدوين لانشغاله بالصراع من أجل البقاء. إن القصص التي أوردها المؤلف ذات دلالة لا تقل أهمية عن الإبداع في صناعة السفن الشراعية والمهارة الملاحية والمعارف الفلكية والخبرة البحرية مع رواد الملاحة في البحر الأحمر وبحر العرب والمحيط الهندي والخليج العربي كل الموانئ المطلة على هذه البحار وصل إليها بحارة البحر الأحمر ومعظم رواد الملاحة من ابن ماجد وماجلان وغيرهما صاحبهم ملاحو البحر الأحمر وتعاملوا مع كل معطيات ذلك، وقد اكتفى المؤلف عن ذكر ذلك بما ورد في النصوص الشعرية والقصص البحرية دليلاً على ما ذكرت. ومن القصص الشواهد قصة العاشق ذلك الفتى الأملجي الذي صحب أباه إلى جزر تيران وسنافير وهناك تعلق قلبه بفتاة وعند العودة إلى دياره تطلع إلى جبل تيران مودعاً وقال: سبحان يا تيران من هو معلّيك وادعاك نايف من علو الجبال تلطف بحال اللي فواده سكن فيك يا ريحة البّري نسيم العفال ثم ألقى بجسده على البحر مبحراً إلى حيث سكن فؤاده، ولم يتمكن والده ورفاقه من انقاذه وربما تمكن من بلوغ مأربه، وفي هذه القصة دلالة على علاقة الجزر بالشاطئ الذي انفصلت عنه ومن الشعر ما يؤكد العلاقة بالأماكن الأخرى في البحار التي أشرنا إليها. فمن أبيات الإشارة بالسفن المصنوعة في أملج قول ابن عساف: يا راكب اللي جديد العود والشلمان هودار ومعلمه رايقا عقله وميزانه قرار العود هندي يجينا في المراكب من منيبار لايق على صنعة النجار فالأخماس دارا تسعة عشر بيتاً من الشعر عن التقنية في صناعة السفن ودقتها ووصف جودتها، ثقافة نادرة لأهل أملج بالملاحة البحرية وهي ثقافة تشمل مدن الساحل الغربي، ويلاحظ في القصيدة مواقع معروفة إلى اليوم وذكر أشخاص أصدقاء لهؤلاء البحارة، وفيها وصف للبحارة ونظامهم ومهارتهم وكيف يقضون أوقات راحتهم وكيف يواجهون تقلبات البحر. ونختم بقصيدة عاطفية للشاعر نفسه، وبالمناسبة فإن ابن عساف الجهني من أسرة بحرية ولهم قصائد كثيرة حتى لم يفرق الرواة بينهم فإبراهيم ومرزوق وغيرهما من عمالقة البحارة ومن أبلغ الشعراء، وأحدهم هو صاحب قصيدة: سلام سلام يا جرة قدم سلام سلام سلام لو كان جره ما تردين السلام أما القصيدة العاطفية فمنها: هبّت علينا اليماني في اول الشاتي بنسناس لا واسعَيد الديار التي هبايبها يماني العفو لله من قلبٍ تكالت فيه الاهجاس الناس متريّحة وانا مشاجيني زماني قصيدة حب تعلق به الشاعر في جازان وتعذر اتمامه بالزواج واكتفى بهذه القصيدة الوداعية، وهي ذات صلة بأبيات جرة قدم ثلاب التي منها: واعيني اللي تلد خلافها والدرب قدام وتلد يم اليمن وتكثر اللدات شامِ فأم أولاد الشاعر في أملج «شام» ومن يحب في جازان «يمن» رحم الله الشاعر. وإذا كان من ملاحظة على الكتاب فإن محتواه يشغل عن الملاحظات ويزهد فيها، ولعلها لا تتجاوز الأخطاء الإملائية والطباعية، وكل له عذر فيما عدا ذلك رغم أهميته وهو شرح المصطلحات البحرية الواردة في الشعر، ولعله يتحفنا بشرحها في الطبعات القادمة. أشكر المؤلف على إهدائه، وأهيب بأبناء الوطن المبادرة بنشر موروثنا الثقافي وحفظ ثقافة الأجداد. عبدالرحيم الأحمدي