سيظل البحث في التراث وقضاياه من الظواهر الإيجابية التي يجب أن تلقى الدعم والتشجيع، ذلك أنها لا تحد فقط من ظاهرة الاستلاب الفكري الشائعة في العالم الإسلامي بما في ذلك الوطن العربي فحسب، بل تحطم الحجاب من الجهل الذي صنعته ظروف الانحطاط والالستعمار بين جيلنا المعاصر، والتراث العربي الإسلامي الغني بالكنوز من التجارب والاتجاهات الفكرية التي تناولت مختلف قضايا الإنسان والحياة، بروح متحرّرة من التعصّب والتحجّر والغلو، تنتصر للعقل وتُحكّمه في كثير من الأمور، تجعلنا على معرفة كاملة بأصول تراثنا في مجال الفكر والعلم والفقه والتشريع. ولعل من أكثر مميزات تراثنا وضوحاً أنه ارتبط بالواقع العملي للحياة الإنسانية على ضوء من (القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة)، حتى فيما يتصل بقضايا الفكر فإن تحليلها والجدل حولها إنما كان مقياسهما الرئيسي هو الواقع، بعيداً عن الشطحات الفكرية البعيدة عن الواقع أو المنافية لإمكانات وقدرات الإنسان، ومن ثم فإن الازدهار الفكري في تراثنا أصبح معروفاً وميسوراً لجيلنا المعاصر من المثقفين، وأصبح أيضاً القاعدة التي يجب أن تنطلق منها ثقافتنا العربية المعاصرة وفكرنا العربي المعاصر، في مواجهة الثقافات والأفكار والنظريات الوافدة، التي لا تمكّننا من الاستفادة منها بالقدر الذي يلائم احتياجنا للتطوّر والتقدّم والانطلاق، ولكنها تهاجمنا لكون ساحتنا الفكرية فارغة، ما يؤدي إلى الاستلاب الفكري والتمزق والانحطاط الفكري، فلكي نحافظ على مميزات شخصيتنا وأصالتنا وهويتنا الإسلامية العربية، يجب أن نتجه إلى التراث ونشبعه بحثاً ودرساً. وبقدر الأهمية التي تكتسبها عملية البحث في تراثنا الإسلامي فإن البحث في الفكر القومي العربي القادر على التعبير عن الذات العربية الحقيقية هو المهمة الأساسية والصحيحة، فعندما كان الفكر العربي القومي يؤدي دوره في مجابهة الاستعمار، فإنه كان يعبِّر عن الذات الإسلامية العربية التي تطمح إلى الخلاص من الاستعمار وإلى تحقيق الحرية، لذلك كان دوره منتصراً أو قادراً على الوصول بالإنسان العربي إلى الهدف، وعندما انتقل دور الفكر العربي إلى مجابهة الواقع، لم يكن دوره مماثلاً لدوره السابق في مجابهة الاستعمار، وبالتالي كانت العوائق كثيرة والإحباطات متوالية، والسبب يكمن في أن الدور أصبح أكثر عمقاً ويتطلب منطلقات فكرية أكثر نضجاً، وأكثر تعبيراً عن الذات والهوية، ولما كان ذلك غير متوفر بما فيه الكفاية، فقد كان اللجوء إلى الشعارات والمزايدات عملية تعويض، لعلها تحل محل ما هو مفقود وتغني عنه، ولكن عملية النهوض هذه قد أحدثت فجوة واسعة بين الفكر والواقع، وكلما ازداد هديرها -أي الشعارات - زادت الهوّة اتساعاً، كما أن القومية لا يمكن أن تكون اتجاهاً مرحليّاً تفرضه ظروف معينة تزول بزوال هذه الظروف، كما أن الفكر العربي القومي لم يصبح تراثاً فكرياً وطنياً في الفكر العربي الحديث والمعاصر منذ فجر النهضة العربية المعاصرة فحسب، بل أصبح الطريق الوحيد للخلاص من واقع التشتّت العربي الراهن، كما كان له الدور الأساسي في مجابهة الاستعمار وانتزاع حرية الشعوب التي كانت ترضخ تحت نير الاستعمار، وفي الكثير من المكتسبات التي تحققت في أرجاء الوطن العربي، فعندما تكون الأمة ممزقة الأوصال تُعاني من التشتّت والتمزق، فإن القومية تصبح بحثاً عن الذات والهوية.. وصولاً إلى ما يحقق للأمة تجاوز التشتّت والتمزق وما يحقق لها الوحدة والقوة، لأن القومية من هذا المنظور يجب أن تكون بعيدة عن التعصّب العرقي، فهدفها هو المحافظة على كيان الأمة ووجودها القومي المتكامل. وحتى يؤدي الفكر القومي العربي دوره لابدّ أن يكون متجانساً، ولا يمكن أن يتحقق التجانس إلّا إذا تحقق له الفرز الموضوعي حتى يصبح فكراً قادراً على استيعاب الواقع العربي وتغييره، وهنا يمكننا الإشارة إلى مكمن الخلاف الذي تعاني منه الاتجاهات القومية المتمثلة في نظرتها إلى الجانب التاريخي للأمة العربية، والمراحل التي مرّت بها حتى بلغت اكتمال وجودها القومي، وهذا الجانب يتضمن حقائق أساسية أهمها دور الدين الإسلامي في إيجاد المقوّمات التي يرتكز عليها الوجود القومي، باعتباره ممتزجاً امتزاجاً كاملاً في هذا الوجود وليس مجرّد إضافة، كما أن عناصر ومقوّمات هذا الوجود تعود في النهاية إلى الدين الإسلامي، وبالتالي فإنه قد امتزج بهذا الوجود القومي وحقق له الاكتمال.