في المقال السابق، كتبت بشيء من التفصيل عن مصطلح القوة الناعمة الذي صاغه في تسعينيات القرن الماضي جوزيف ناي عميد معهد كينيدي للدراسات والأبحاث بجامعة هارفارد الشهيرة. كما أسهبت في ذكر مصادر وموارد القوة الناعمة التي تمتلكها وتستثمرها وتوظفها الأمم والشعوب والمجتمعات الذكية والمتحضرة، لأنها تُمثل ملامح القوة والهيمنة والتفوق والتميز والتأثير التي تضعها في صدارة المشهد العالمي، ومن تلك المصادر الفنون والآثار والاقتصاد والرياضة والفلكلور والعلامات التجارية الشهيرة والجامعات العريقة وغيرها. وختمت المقال السابق بهذا السؤال المعقد الذي ينتظر إجابة شافية على صدر هذه المساحة المحدودة: ماذا عن حقيقة وجود واستثمار وتأثير القوة الناعمة في وطننا العزيز الذي يزخر بالكثير من المصادر والموارد والملامح والثروات والقدرات والطاقات والإمكانيات، البشرية والمادية؟ المملكة العربية السعودية، هذه القارة الشاسعة والمترامية الأطراف، زاخرة بكل ملامح ومعالم ومصادر التنوع والتعدد والتمايز على كافة الصعد والمستويات، الجغرافية والتاريخية والثقافية والعرقية والاقتصادية والسياحية والتراثية والمناخية والبيئية والفلكلورية والكثير الكثير من موارد التنوع والتعدد والتباين التي لا مثيل لها على الإطلاق. ومحاولة وضع قائمة لمصادر وموارد القوة الناعمة التي آن لها أن تتمظهر وتُستثمر وتُوظف في وطننا، أشبه بمحاولة عد النجوم في ليلة حالمة وسماء صافية. فنحن على سبيل المثال لا الحصر، قبلة المسلمين وأرض الحرمين الشريفين ومقصد الحجاج والمعتمرين لأكثر من مليار ونصف من المسلمين في كل العالم، والثقل الاقتصادي الكبير الذي يمتلك الكثير من موارد وموازين الاقتصاد العالمي، ومهد الحضارات والتحولات التاريخية الكبرى التي خلّدها السجل البشري ولعل أهمها وأعظمها وأكثرها تأثيراً هي الحضارة الإسلامية المجيدة بكل ألقها ونورها وروعتها، والبيئات والمناخات والتضاريس المتنوعة والمتعددة والمتمايزة في بحارها وصحاريها وجبالها وسهولها ولهجاتها وأطباقها ورقصاتها وأغانيها وعاداتها وتقاليدها وموروثاتها وحرفها، والآثار القديمة التي تنتشر على امتداد الوطن كالآثار الإسلامية والنبوية الشريفة في مكةالمكرمة والمدينة المنورة ومدائن صالح في العلا والأخدود في نجران وواحة تيماء في تبوك وسوق عكاظ في الطائف والقلعة البرتغالية في جزيرة تاروت، وقرابة ال 200 ألف مبتعث ومبتعثة في كل دول العالم المتقدمة ينهلون العلم والمعرفة والتجربة ولكنهم قبل كل ذلك سفراء لوطنهم بكل ما يُميزهم من كرم وخلق ونبوغ وطموح وتفوق ما يعكس صورتهم الجميلة على وطنهم الأم، والفنون بمختلف أشكالها وألوانها كالغناء والموسيقى والمسرح والرقصات الشعبية والسينما والرسم وغيرها من الفنون التي ترسم واجهة حضارية أنيقة، والشعراء والأدباء والمثقفون والروائيون والمترجمون والكتاب الذين يُمثلون جسر التواصل مع الآخر، والإعلام بمختلف أشكاله ومستوياته الذي يعكس الصورة البرّاقة والجذابة والمؤثرة التي تُسهم في تسويق وتنجيم الوطن، والرياضة بكل نجومها ومنافساتها وعالمها المثير باعتبارها قيمة حضارية ملهمة ولغة إنسانية راقية، والكثير الكثير من مصادر وموارد القوة الناعمة التي نملكها بكل وفرة وكثافة ولكننا بكل حزن شديد لم نُحسن استثمارها وتوظيفها حتى الآن. نعم، لدينا من القوة الناعمة ما يفوق النفط قيمة وتأثيراً، وكل ما نحتاجه فقط، هو أن نضعها ضمن أولويات رؤيتنا الحديثة. [email protected]