الحديث عن المستشفيات ودورها المستقبلي لا يمكن أن ينفصل بحال من الأحوال عن المتغيرات المتسارعة في عوامل البيئة والمجتع، وفي خريطة الأمراض، وفي التقنيات الطبية، وغير هذه وتلك. أقف قليلا عند التغيرات المتوقعة في خريطة الأمراض. قبل نحو من 30 سنة كنا ندرس لطلابنا في كليات الطب أنماطا من الأمراض لم نعد نركز عليها الآن، في حين أننا نركز حاليا على مشاكل صحية لم نكن نوليها الكثير من الاهتمام قبل اليوم. هذه التغيرات في خارطة الأمراض جاءت نتيجة لعوامل عديدة منها: الزيادة المطردة في متوسط سنوات العمر بما تحمله من زيادة في معدلات الأمراض المزمنة، والتغيرات المناخية المتوقعة بما لها من تأثير على معدلات الإصابة بالأمراض المتوطنة والمتنقلة، وسهولة السفر بين البلدان والقارات، حتى أضحى الفيروس الذي يصيب سكان بلدة في أواسط أفريقيا سرعان ما ينتقل خلال أيام الى أوروبا وأمريكا، أضف الى ذلك المتغيرات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية بما لها من تأثير على وسائل المعيشة وسلوك البشر. كان أساتذة الطب منذ عقود قليلة مضت يعتمدون في تشخيصهم وعلاجهم على المظاهر المرضية. يستعينون في ذلك بالحس الإكلينيكي، وبالمسماع الطبي، وبجهاز الأشعة التقليدي. واليوم يعتمدون أكثر ما يعتمدون على نتائج الفحوص المخبرية المعقدة، والفحوصات الإشعاعية المتطورة، وبدأ العلماء والأطباء في استخدام تقنيات النانو، وما ستحمله لنا الأيام أعظم. الطبيب الذي يشارك اليوم في مؤتمر طبي في تخصصه يجد أن البحوث التي تلقى اليوم غير تلك التي كانت تلقى قبل عقدين من الزمان. أصبحت البحوث الطبية في أغلبها على مستوى الخلية والجزئ. والعلوم الطبية تتغير في كل بضع سنوات، والطبيب أو الفني الصحي الذي لا يتابع الجديد قد يجد نفسه متأخرا عن الركب. مما يعني اننا يجب ان نعطي أهمية بالغة للتعليم الطبي المستمر. ومتغيرات أخرى تتصل بأسلوب تقديم الرعاية الطبية. أضرب مثلا لذلك الرعاية الصحية المنزلية . فبدلا من أن يذهب المريض وبخاصة الشيخ الكبير والطفل الصغير والأم الحامل الى المستشفى مما قد يعرض أحدهم الى العدوى والتي هي من أهم مشاكل المستشفيات، يمكن أن تنتقل الرعاية الطبية اليه في منزله. فبإمكان الممرضة او الزائرة الصحية او أخصائية العلاج الطبيعي أن تزور المريض في بيته تسجل تاريخه المرضي، ودرجة حرارته، ونبضه، وتحلل قطرة من دمه، وتجرى له تخطيطا للقلب، و ترسل النتائج في نفس اللحظة الى الطبيب في مركز الرعاية الصحية الأولية أو المستشفى ليتابع حالة المريض ويصف له علاجه، وفي الوقت نفسه تقوم بالتثقيف الصحي للأسرة. حدثني صديقي عميد كلية الطب في جامعة أريزونا فقال: لو نسى كل شيء قمت به في حياتي وذكر لي فقط أني بدأت مشروع الصحة المنزلية في مديني لكفاني. على مدى دهور كانت القاعدة هي الولادة في المنازل. ثم مع بداية القرن العشرين برز الاتجاه للولادة في المستشفيات، أما الآن فالدعوة قائمة ومتجددة في أوروبا وأمريكا الشمالية واليابان وأستراليا للعودة مرة أخرى في حالات الولادات الطبيعية (والتي تكون النسبة العظمي من حالات الولادة) الى الولادة في المنازل، وذلك على أيدى مولدات مدربات بدلا من الأطباء. إنشاء المستشفى ليس هدفا في حد ذاته وإنما هو وسيلة لتحقيق هدف (الرعاية الصحية الشاملة: الوقائية والتطويرية والعلاجية والتأهيلية)، ومن ثم يجب أن يخضع لتخطيط متوازن يعنى بالبدائل. قد يكون الأولى بدلا من التركيز على المستشفيات الضخمة إنشاء مستشفيات أصغر مرتبطة بمراكز الرعاية الصحية الأولية. وبدلا من الصرف الباذخ على الأجهزة والمعدات يركز على إعداد وتدريب القوى البشرية. وبدلا من إنشاء المدن الطبية ننشئ المرافق الصحية أقرب ما تكون للمريض وأسرته لتيسير الوقاية والعلاج والتأهيل، وبدلا من إنشاء المستشفيات العادية نركز على إنشاء مستشفيات اليوم الواحد. اذا أردنا ونحن في مرحلة التخطيط لمستشفياتنا القادمة وتطويرما هو قائم منها أن نأتي بحلول سريعة وفاعلة لا أجد -في رأيي الشخصي- بديلا عن اللامركزية نتخذها قاعدة للإدارة الصحية. وهذه نفسها تحتاج الى إعداد يستغرق بعض الوقت. إعداد لتدريب القادة والمديرين على التخطيط والتنفيذ بناء على الأهداف، وإعداد لوضع معايير المتابعة والتقييم والمحاسبة. وبذلك تتمكن وزارة الصحة من التخطيط الهادف بعيد المدى الخلاصة هي أنه أمامنا بديلان: بديل سهل إلا أنه يعود بنا الى نفس الدائرة. ذلك هو البديل الذي يتماشى مع الفكرة التقليدية لإنشاء المستشفىيات من أنها لعلاج المرضى، وبذلك تظل المستشفيات كما أسماها الأستاذ الدكتور ديفيد مورلي "قصور المرض Diseases Palaces". وأجزم أن هذا ليس هو التوجه الذي نلمسه من ولاة الأمر والمسؤولين الصحيين. أما البديل الآخر فهو البديل الأصعب في تخطيطه وتنفيذه، ولكنه البديل الموصل، وهو البديل الذي استشفه من قراءتي لفكرة التحول الوطني لعام 2020 والرؤية لعام 2030. هذا البديل ينظر الى المستشفيات ومراكز الرعاية الصحية على أنها منارات إشعاع لنشر الصحة في المجتمع جنبا الى جنب مع علاج المرض، مما يتحتم معه التغيير والتطوير بخطى متساوقة تعنى بإعادة النظر في: دور المستشفى وعلاقته بالصحة العامة وبالمجتمع وبمراكز الرعاية الصحية الأولية، وفي مناهج التعليم الطبي، وفي نظام الإدارة الصحية، وفي إعطاء مديري المستشفيات ومراكز الرعاية الصحية الفرصة للحركة والإبداع والتطوير ومحاسبتهم على النتائج، وفي إشراك أفراد المجتمع في التخطيط والتنفيذ والتقييم. كل هذه الإجراءات وغيرها تعبير لما جاء في خطط التحول الوطني 2020 والرؤية الوطنية 2030. نسأل الله التوفيق والسداد. *أستاذ طب الأسرة والمجتمع