قال الأمير شكيب أرسلان في سامي الشوا الملقب بأمير الكمان سنة 1939م: أمير الكمنجة قد حملت إمارة لها وغدا فيها لواؤك معقودا فلو سمعتها منك نجد وأهلها أجازوا الكمنجة والمزمار والعودا وكنا انتهينا في الأسبوع الماضي إلى موقف الشيخ ابن حميد الذي أنكر على الشاكي معرفة أم كلثوم ولكن يبدو أنه قصد أنه طالما أنه عرف صوتها فهو من المستمعين لها وأن دعواه ضد جاره كيدية ! والحقيقة أن جهاز الراديو جعل للغناء ولأم كلثوم حضورا في قلب نجد لم يتخيله (المطاوعة) بأي حال إلى درجة أن يجتمع (الزكرت) حول الراديو في مواعيد حفلاتها ليستمعوا في أمسيات طربية خارج البلدات النجدية بكل راحة بعيداً عن مضايقات السكان بشكل عامل لأن النظرة الاجتماعية لأي عمل من الأعمال في تلك الفترة كانت خاضعة بطريقة أو بأخرى للنظرة الدينية. ولأن الشيء بالشيء يذكر فهناك قصة تظهر موقف الشيخ السلفي صاحب المنار محمد رشيد رضا من الغناء أو من أم كلثوم تحديداً؛ ففي شهر سبتمبر سنة 1929م مرّ الأمير شكيب أرسلان بمصر في عودته من أداء فريضة الحج وقضى يومين في مدينة بورسعيد وذهب للقائه فيمن ذهب محمد علي الطاهر صاحب جريدة الشورى، فقال له : إن الأمير جاء إلى مصر ولكن كأنه لم يرها لأنه لم يسمع أم كلثوم. فقال أحد الحاضرين: ولكنه سيسمعها إن أراد لأن أم كلثوم وصلت الآن وستغني الليلة. وحجز أحد الأصدقاء للأمير وصحبه مقصورة خاصة في مكان الغناء، وكان في مقدمتهم السيد محمد رشيد رضا، فقال الطاهر له: وهل يجوز سماع أم كلثوم؟ فقال السيد رشيد: كيف لا وأنت تراني هنا؟! فقال الأمير شكيب: هذه فتوى! وغنت أم كلثوم فطرب شكيب أرسلان لصوتها وأعجب به وارتجل الأبيات : رؤوس تغطّى بثلج المشيب ولكنما النار من تحتها تميل مع الطرب المستمر لدى أم كلثوم مع تختها وكنت قد قرأت أنه كان من المقرر في برنامج زيارة الملك عبدالعزيز لمصر عام 1946م حضوره حفلة لأم كلثوم تغني فيها قصيدة من كلمات علي محمود طه في الملك ولكن تم إلغاء الحفلة !! وكان من الطريف أن تبث الإذاعة المصرية أغنية أم كلثوم (سلوا قلبي) التي كتبها أحمد شوقي ولحنها رياض السنباطي ومطلعها: سلوا قلبي غداة سلا وثابا لعل على الجمال له عتابا طيلة تواجد الملك عبدالعزيز في مصر كانت بعد أن ألحق بها الشاعر محمد الأسمر خمسة أبيات في مدح الملكين عبدالعزيز وفاروق وهي: وكيف ينالهم عنت وفيهم رضا ملكين بل روضين طابا إذا الفاروق باسم الله نادى رأى عبدالعزيز قد استجابا فصن يا ربنا الملكين واحفظ بلادهما وجنبها الصعابا هما فجر العروبة أنجبته فقالت يومي المرجو آبا إذا اتحدت أسود الشرق عزت عروبتهم وصار الشرق غابا كما صدح محمد عبدالوهاب بأغنية (يا رفيع التاج) ترحيباً بالملك وزيارته لمصر وكانت من كلمات صالح جودت ومطلعها: يا رفيع التاج من آل سعود يومنا أجمل أيام الوجود ورغم ذلك فلم يتغير الموقف من الغناء في نجد، فما زال أهل نجد أو (مطاوعتهم) عند موقفهم الثابت من الغناء، فلم يجيزوا الكمنجة والمزمار والعود، ومن المستبعد أن تجد أحدهم في إحدى الحفلات الغنائية مدافعاً عن جوازه بلسان حال محمد رشيد رضا: "كيف لا وأنت تراني هنا؟!" ولكن هذا الموقف لم يؤثر كثيراً في توجهات (الزكرت) الذين انتقلوا إلى مرحلة أخرى فبدلاً من اجتماعهم على الراديو أصبحوا يشدون الرحال للاستماع إلى حفلات أم كلثوم وغيرها من الحفلات للمطربين والمطربات خارج المملكة ،بل أن الأمر تجاوز ذلك إلى درجة أن تتغنى أم كلثوم بقصائد أهل نجد كقصائد الأمير عبدالله الفيصل (ثورة الشك) و(من أجل عينيك)، بل إن بعض الدارسين للعلم الشرعي لم يجد غضاضة في إعلان ولعه بالغناء وإبداء إعجابه بإحدى المطربات كما فعل أبوعبدالرحمن بن عقيل الظاهري الذي شغف ب(نجاة الصغيرة) وأهدى إليها ديوانه (النغم الذي أحببته).