أمنية..كان لها ضفيرتان سوداءوان كالحرير.. كان لها عينان سوداءوان تلمع بذكاء وحيوية يكسوها رمشان كأنهما غابة.. كان لها منطق واع.. راق.. ينم عن حورية.. كان..!؟! ألم.. لوعة.. تتمخض عن دمع حار غزير وتلك الصراعات تعبث بكيان والدتها.. كبَّر الإمام.. الصلاة على جنازة.. فاض نهر الأوجاع عبر مقلتيها، تذكرت رأسها الصغير حين ارتفع ليصل نظرها نهاية المئذنة الحديثة.. الكبيرة.. الأنيقة وهي تسأل: متى تبدأ الصلاة في ذاك الجامع.. كأنه الحرم.. إنه شامخ شموخ ديننا يا أمي.. أستاذة أمل قالت لنا إن لقراءة الآيات فيه نغمة تطرب الآذان وتبث الطمأنينة في النفس، متى أقف لأصلي!.. بكت حتى غاب الصوت عن مسامعها.. واختفت الرؤية من أمامها وهي تودعها.. وهي تصلي عليها والجموع!! دون أن تتحقق أمنيتها بالصلاة معها!! أسماء.. بين رعشة الحمى والهزل: استعرضت الوارد.. قرأت: هل يكون صادقاً من يتحدث عن البرد وهو يتصبب عرقاً؟! تساءلت كيف يكون الرد!! فهذه أسماء التي كثيراً ما كانت تحاول فك رموز حيرتها واقتحام عالمها الانفرادي.. تلك الفتاة الشامخة الملتزمة ذو التقاطيع الطفولية البريئة. أمسكت القلم.. أماطت لجامه.. كفارس في رمقه الأخير يستجمع بقايا قوة.. كتبت: عزيزتي أسماء، قد يكون صادقاً عندما تسكن أوصاله رعشة المرض والانكسار والإخفاق بفعل فاعل فتراه يحلق.. يشعر بشيء من الحاجة إلى الهروب بعيداً حيث القلوب النقية.. والأنفاس الطاهرة.. بلا زيف أو احقاد أو سلطوية.. تنبني على تنفسها نبض تلك القلوب. تراخت أناملها.. فسقط القلم وعبث بناصع البياض بين مد وجزر وهي تفقد الهواء رويداً رويداً!! هزيمة.. كانت نشطة.. أعلنت الطموح وبلوغ المراد رغم عوائقها صممت على الرحيل نحو الأفق.. هناك بالأعماق أشياء جميلة.. أفكار فريدة.. لم تتخاذل.. وأصرت على خوض المعركة، قاومتها بشراسة.. أتمت مراحل كثيرة في تعليمها.. ألقت بمرساها الثقيل بكبد البحر.. لم يهمها هيجانه.. تقدمت وبرغم تلك القيود بأرجلها سارت.. وعند الوصول إلى الهدف.. لا يفصلها عن تحقيقه عبر خطوات أطبق امامها حاجز خرساني كتب عليه: نأسف لعدم منحك الهدف.. هزيمة نفسية أخرى.. ماذا.. لقد تأخرت كثيراً.. غاصت بأغوار نفسها المحطمة.. أفاقتها رائحة.. حسرة.. انتحار.. إنها لقلبها يحترق.. أزف الرحيل.. هنا قسمات باهتة كأنها السراب لا أستوضح غير تلك العينين الغائمة بها، كأنها بحيرة تميل إلى القتمة.. تراقبني في كل حركة وكل آهة تصدر مني.. تتابع نبض قلبي بشغف.. بخوف يغلفه أمل اليائس من تحقيق أمنية!؟ دخل الغسق وأنا وجلة.. يتخبطني القلق.. القلق المغلف بالحزن.. كمن أوشك على فقد نظره في هذه الحياة تمر الثواني وكأنها دهر كامل.. لحظات اجد فيها الصمت المطبق.. الشعور.. الإحساس بالغربة.. الغربة الكاملة لكل انتماء حولي.. لم تعد أمنياتي بذات أهمية لم تخالجني حسرة عدم تحقيقها.. كان الكل يترقب تصرفاتي وأنا اتخبط بذاتي التائهة أحاول إمساك شيء.. أي شيء فيها.. فلا وجود لإحساس ولا استطعت الوصول إلى نبضها الضعيف. تلونت الحياة أمامي وكأنها لعبة بيد طفل وجهها نحو صفحة الماء لتعكس أشعة الشمس بألوان متداخلة تغلب عليها الزرقة، هكذا هي لحظات الألم.. أشارت إليَّ أن اقترب.. وفعلت.. أمسكت بأناملها..؟.. اطبقت على يدي بهزل.. مال جزء من شفتيها كمحاولة للابتسامة وإن كانت متثاقلة.. أوحت لي: لا تجزعي.. لا تجزعي.. فكلنا نمر من هذا الطريق يوماً ما.. راحلون.. نمتطي الأمل نحو غد آخر، ونحن واثقون بعدم تحقيقه.. عندما نرى تلك الشجرة في الصحراء الشاسعة التي تعني لنا وجود حياة فنلزمها، نحط الرحال حول جذعها وكأننا نتمسك بالنبض.. وعند لحظة المغيب نعي حقيقتنا.. لا نقول المُرة.. فهذه ركب الحياة.. لحظات نغفوا فيها.. تتابع الزفير.. آخر الثواني للهواء برنتينا نسلمه، لنسلم صفحتنا إلى أجلنا المكتوب.. كانت قد أطبقت عيناً وبقيت أخرى هزيلة.. هناك رغوة حول شفتيها.. زبد النهاية.. هكذا علمت.. عندما تحولت أناملها إلى شتاء قارص..