جاء نظام الإجراءات الجزائية في المملكة العربية السعودية الصادر بالمرسوم الملكي رقم م/ 39 وتاريخ 28/ 7/ 1422ه والمستمد من تعاليم الشريعة الإسلامية السمحة لتأكيد حرية الفرد، ومنع الاعتداء على حقوقه المادية والمعنوية، وحماية حرماته من أي انتهاك، فللمتهم بوصفه إنساناً أيّاً كانت جنسيته أو ديانته الحق في أن يحيا حياته الخاصة بعيداً عن تدخل الغير، وبمنأى عن العلانية. فالإنسان بحكم طبيعته له أسراره الشخصية، ومشاعره الذاتية، وخصائصه المتميزة، وتقتضي حرمة هذه الحياة أن يكون له الحق في إخفاء السرية على مظاهرها وآثارها. والشريعة الإسلامية حرصت كل الحرص على صيانة الإنسان وتكريمه، وحرمت كل ما يمس شخص الإنسان أو ماله أو عرضه، وما يتعلق بذلك من التعرض لمسكنه وحياته الخاصة ما دام بعيداً عن التهمة، متوقياً للشبهات، ملتزماً بأحكام الشرع. أما إذا خالف ذلك ووضع نفسه في موطن الشبهة، وقويت التهمة ضده بقيام الدلائل والقرائن فقد جعل على نفسه وبيته طريقاً يجيز لجهة التحقيق التعرض لها والمساس بها في حدودٍ ضيقة، وبضوابط معينة، وأزمان محددة. ولهذا كان إجراء التفتيش من أشد الإجراءات التي عُني بها النظام وذلك بالنص على حظر ومنع التفتيش كقاعدة، ولم يجزه إلا بقيود خاصة، فقد نصت المادة السابعة والثلاثين من النظام الأساسي للحكم في المملكة العربية السعودية الصادر بالمرسوم الملكي رقم أ/ 90 وتاريخ 27/ 8/ 1412ه على أن (للمساكن حرمتها، ولا يجوز دخولها بغير إذن صاحبها و لا تفتيشها إلا في الحالات التي يبينها النظام). كما نصت المادة الأربعون من نظام الإجراءات الجزائية على أن: (للأشخاص ومساكنهم ومكاتبهم ومراكبهم حرمة تجب صيانتها. وحرمة الشخص تحمي جسده وملابسه وماله وما يوجد معه من أمتعة. وتشمل حرمة المسكن كل مكان مسور أو محاط بأي حاجز، أو معد لاستعماله مأوى). والتفتيش يمكن تقسيمه إلى قسمين بحسب المحل الذي يقع عليه: 1 تفتيش الأشخاص. وهو التفتيش الذي ينصب على جسد المتهم أو ملابسه أو ماله الذي معه أو أمتعته. 2 تفتيش المساكن. والمقصود بتفتيش الأشخاص والمقصود بتفتيش المساكن هو التفتيش الذي يشمل كل مكان مسور أو محاط بأي حاجز أو معد لاستعماله مأوى ؛ فيشمل المساكن والمكاتب والمراكب ونحوها. وسوف نتكلم في هذا المقال عن القسم الأول من أقسام التفتيش وهو تفتيش الأشخاص. فنقول: التفتيش هو: إجراء من إجراءات التحقيق يهدف إلى التوصل إلى أدلة جريمة اُرتكبت فعلاً، وذلك بالبحث عن هذه الأدلة في مستودع السر، سواء أُجريَ على شخص المتهم أو في منزله دون التوقف على إرادته. ويقصد بتفتيش الأشخاص كمحل قابل للتفتيش كل ما يتعلق بكيانه المادي وما يتصل به، ويشمل هذا الكيان الأعضاء الداخلية والخارجية منه، حيث يتصل بما يرتديه من ملابس داخلية أو خارجية، أو ما يحمله من حقائب أو أمتعه، أو ما يكون في يديه أو في جيوبه من أشياء منقولة، بل إن التفتيش يشمل حتى أعضاء المتهم الداخلية كدمه ومعدته التي يمكن تفتيشها عن طريق غسل المعدة لتحليل محتوياتها، وعن طريق أخذ عينة من الدم لمعرفة نسبة ما به من كحول مثلاً، فيحق لرجال الضبط الجنائي (ضباط الشرطة ورؤساء هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرهم ممن ذكرهم النظام في المادة السادسة والعشرين) في حالة تلبس شخص ما بجريمة أن يقبضوا عليه، وينبني على جواز القبض على المتهم جواز تفتيشه ؛ إعمالاً للقاعدة الإجرائية ( في الأحوال التي يجوز فيها القبض على المتهم: يجوز تفتيشه) ويشمل هذا التفتيش جواز تحليل أعضاء المتهم الداخلية، كتحليل دمه لمعرفة نسبة المسكر مثلاً، وخاصة إذا ترتب على شربه للمسكر قضية جنائية أو دهس لأحد الأشخاص أو إتلاف للأموال العامة أو الخاصة، أما اتخاذ التحليل لإثبات قضية السكر فقط فهو محظور على رجال الضبط الجنائي. وينقسم تفتيش الأشخاص بالنظر على نوعه إلى أقسام منها: 1 التفتيش الإداري للأشخاص: وهو التفتيش الذي تقوم به بعض الأجهزة الإدارية بهدف تطبيق بعض التعليمات واللوائح والتأكد من مدى تقيدها والأشخاص القائمين عليها بإنفاذ التعليمات. وهذا التفتيش لا يهدف إلى البحث عن الأدلة الجنائية لجريمة ارتكبت، أو لضبط أدلة تهدف إلى القبض على أحد الجناة بل هو يهدف إلى التأكد من مدى التقيد بالتعليمات والتنظيمات. ويتمثل كثيراً هذا التفتيش في ما تقوم به بعض الجهات مثل البلديات وذلك بمرور المراقبين في صحة البيئة ببلديات المحافظات للتأكد من سلامة الأغذية التي تقوم بإعدادها المطاعم والمطابخ المصرح لها، والإدارات الصحية وذلك بالمرور والتفتيش على المراكز الصحية والصيدليات الأهلية والحكومية، وما تقوم به إدارة مكافحة الغش التجاري في وزارة التجارة والصناعة بالتفتيش على المحلات التجارية للتأكد من تاريخ صلاحية السلع المعروضة ومدى مطابقتها للمواصفات والمقاييس المرعية، وما تقوم به إدارة الدفاع المدني من مراقبة محطات الوقود للتأكد من مدى مراعاتها لشروط السلامة ومن صلاحية المواد التي تقوم بعرضها للبيع. 2 التفتيش الوقائي للأشخاص: يتضح من هذه التسمية أن الغرض من إجراء هذا التفتيش على هذا الوجه يهدف إلى الوقاية للشخص ذاته (المُفتَش) وكذلك لمن يحيطون به أو يعيش هذا الشخص في وسطهم الاجتماعي، ومن ذلك تفتيش نزلاء السجون لمنع وصول أي ممنوعات إليهم، وكذلك تفتيش المسافرين بالمطارات قبل ركوبهم الطائرة تحقيقاً لأقصى درجات الأمن، إضافة إلى ما يقوم به رجال الجمارك وأفراد حرس الحدود من إجراءات تفتيشيه ضمن اختصاصهم المتعلقة بالتأكد من عدم دخول أي ممنوعات يحظرها النظام المعمول به في المملكة العربية السعودية، وكذلك تتضح صورة هذا التفتيش في ما تقوم به المحاجر الصحية الموزعة على حدود المملكة الجوية والبحرية والبرية من إجراءات تتعلق بالحجر على من يظهر عليه أعراض مرضية كمرض أنفلونزا الطيور مثلاً وذلك بتفتيش الأشخاص القادمين من خارج المملكة كإجراء وقائي للتأكد من عدم انتشار العدوى، ولذلك فالفائدة من هذا الإجراء الوقائي هو تحقيق المصلحة العامة للمجتمع، ويتم التفتيش كإجراء وقائي دون تقيّده بضوابط وضمانات التفتيش الجنائي والذي سيكون الحديث عليه مفصلاً في الجزء الثاني من مقالنا القادم بإذن الله. [email protected] ٭ باحث قانوني