كيف أخفق الجعفري؟ .. يكفي أن نقول بأن دوره كموحد للصوت العراقي لم يأت بالصورة المطلوبة، فهو بشكل غير مباشر تغاضى عن تدخلات جيش بدر في الشؤون الأمنية، وسمح للمجلس الأعلى وغيره من القوى السياسية بملاحقة كل من كانت لديه خصومة معهم تحت مظلة «ملاحقة حزب البعث»، ثم أغضب الأكراد مرتين: أولاً حين حذف من القسم القانوني للوزراء الجملة التي تلزم بالعمل على تحقيق الفيدرالية. وثانياً حين قاطع مراسم تنصيب مسعود البارزاني رئيساً لإقليم كردستان أثارت تصريحات رئيس الوزراء العراقي المنتهية ولايته إبراهيم الجعفري المنتقدة للسعودية استياء واستغراب الكثير من السياسيين في داخل العراق وخارجه. ففي حين كان خصومه السياسيون يتهمونه بقلة الخبرة والافتقار للأدوات خلال صراعهم معه على منصب رئاسة الوزارة، كان هو يعد بقدرته على إعادة العراق للحاضرة العربية، ولكن أثبتت التجربة مؤخراً فشله الذريع. الجعفري اتهم السعودية ب «عدم تسهيل» دخول العراقيين لأداء فريضة الحج، وقال: (لم تسهل دخول العراقيين الراغبين في أداء فريضة الحج لهذا العام وأنها لم تأخذ في الاعتبار رغبة أعداد متزايدة من العراقيين في أداء فريضة الحج منذ سقوط نظام صدام حسين). ولكن بعد تعليق وزارة الحج السعودية وانتقادها لتناول الجعفري لقضية الحج بوصفها مسألة سياسية، بل والتنبيه على المظهر الطائفي في اختيار الحجاج رد الجعفري بلهجة أقسى .. مذكراً السعودية ب «الإرهابيين المتسللين من السعودية»، وكيف أنه -أي الجعفري- لم يتخذ إجراءات أخرى كان بوسعه اتخاذها. هل هناك أدنى درجة من الحصافة أو المصداقية فيما يقوله الجعفري؟ .. دعونا نتناول الموضوع من زوايا متعددة إنصافاً للجعفري، وإنصافاً أيضاً للسعودية. الشيء المعروف هو أن حصص الحجاج منذ عدة سنوات قد حددت بواسطة قرارات منظمة المؤتمر الإسلامي والتي تنص على أن حصص تأشيرات الحج توزع بالتساوي بين نسبة واحد في المائة من التعداد السكاني لكل دولة. إذا قلنا بأن العراق يحوي 27 مليون نسمة -نقلاً عن موقع حقائق وإحصاءات العالم السنوي الذي تصدره ال CIA -، فإن مسؤولي الحج وحرس الحدود في السعودية توصلوا إلى أن عدد الحجاج العراقيين لهذه السنة ممن عبروا الحدود السعودية قد تجاوزوا 32 ألف حاج عراقي، أي أكثر من الحصة المقررة للعراق بواقع 5 آلاف حاج. إذن ما هي مبررات الرئيس إبراهيم الجعفري فيما قاله؟ .. الذي نعرفه أن الرئيس الجعفري قام بجولات مكوكية حول العواصم الخليجية والعربية والأوروبية والأمريكية، أي أنه حظي بالاستقبال في أغلب العواصم، وهو لا يفتقر إلى وسائل الاتصال بالقادة لأمور تتعلق بالعراق، كان بإمكان الجعفري وهو الذي حظي باستقبال وترحيب أثناء زيارته الأخيرة للسعودية الشهر الماضي الاتصال بأي شخصية سعودية. الجعفري كان قد صرح في زيارته الأخيرة للسعودية بأنه قد شهد : (الاهتمام البالغ من الملك عبد الله بوحدة العراق واستقراره في ظل الظروف التي مر بها خلال الفترة الماضية)، وأنه تناول: (بعمق إشكالية الإرهاب الذي يهدد البلدين، مما يتطلب زيادة الجهود وتفعيل بعض الوسائل التي يمكن أن تحد منه) .. لماذا إذن غير الجعفري موقفه بشكل سريع ومتعجل، هو اليوم على رأس الحكومة فما الذي يضطره للإدلاء بتصريحات كتلك التي أدلى بها. إذا كانت لدى الجعفري مشكلة حقيقة تتعلق بوضع الحجاج العراقيين فما الذي يمنعه من الاتصال بالقيادة السعودية، لاسيما وأنه اتصل قبل أقل من ثلاثة أسابيع بالملك عبدالله لتناول مسائل الانتخابات العراقية الأخيرة. إن الجعفري في الحقيقة يعاني من مأزق سياسي داخلي، تمثل في انتخابات هزيلة تثير الشكوك لدى الأمريكيين والأمم المتحدة قبل غيرهم من الطوائف والأحزاب السياسية العراقية. أما برنامجه الحكومي فقد اعتبر سطحياً وفارغاً لدرجة أن الوزراء الأكراد في حكومته أعربوا عن دهشتهم لخروج برنامج حكومي لم يطلعوا عليه أو يعطوا رأيهم فيه. أما الوضع الداخلي العراقي ففي انحدار بشقيه الأمني والمؤسساتي منذ ترك إياد علاوي للحكومة، ولأول مرة ينتقد الأمريكيون قبل غيرهم تدهور المؤسسات والسجون وتفشي الأبعاد الطائفية، الرئيس بوش عبر عن رفضه للطريقة الأمنية التي عالج بها وزير الداخلية العراقي السجناء بطريقة تفتقر لأقل درجة من حقوق الإنسان، وليس هذا فحسب فالسفير الأمريكي في العراق زيلماي خليل زاد، وكذلك وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد انتقدا بشدة فشل حكومة الجعفري في بعض أهم الملفات الراهنة. في الحقيقة لا أريد هنا تحميل إبراهيم الأشيقر -الجعفري اسمه الحركي- تبعات تردي الأوضاع في العراق، فخطأ الجعفري الأساسي كان أساساً هو قبوله برئاسة الوزراء في البداية، فالجعفري ورغم احترامنا لتاريخه النضالي إلا أنه ما يزال أمامه الكثير في المجالين السياسي والدبلوماسي لا نقول ليتعلمه بل ليعتاد عليه، وهذه ليست مشكلة الجعفري وحده بل تشمل كثيرا من الوجهاء السياسيين في العراق سنة وشيعة، فالمشكلة في هؤلاء هو أنهم عاشوا عقوداً كمناضلين وثوريين معارضين للنظام السابق، ولكنهم لم يتسن لهم الممارسة السياسية الديمقراطية بشكلها المهني، ف «حزب الدعوة» الذي يترأسه الجعفري ليس فيه انتخابات داخلية على سبيل المثال. وأقل متابعة لتصريحات السياسيين العراقيين منذ توليهم الحكم -تحت الوصاية الأمريكية- هو كثرة الأخطاء والإساءات المتعمدة للدول المجاورة. طبعاً، هذا لا يشمل كافة السياسيين العراقيين فهناك سياسيون متمرسون ويدركون الأدبيات الدبلوماسية. في الحقيقة الجعفري خسر الكثير حينما قبل برئاسة الحكومة في هذه الفترة، وتجدر الإشارة إلى تنازل اثنين من السياسيين العراقيين عن الرئاسة لصالح الجعفري، وهما أحمد الجلبي رئيس المؤتمر الوطني العراقي، وعادل عبدالمهدي أحد قياديي المجلس الأعلى للثورة في العراق، فقد تنازل كل من الرجلين عن المنصب رغم سحره لأجل الجعفري، وفي الحقيقة كان ذلك تكتيكاً سياسياً من قبلهما، فكلاهما كانا يدركان بأن الحكومة -بوصفها لا تزال مؤقتة- ستواجه تحديين رئيسيين: أولهما الدستور وثانيهما الفيدرالية العراقية. اعتقد كل من الجلبي والمهدي أن قبول رئاسة الحكومة -في ذلك الوقت الذي قبل به الجعفري- يعني التقاعد السياسي المبكر، لأن أي رئيس وزراء قادم سيكون عليه تقرير مصير ملفي الدستور والفيدرالية، وكلاهما كفيل بإسقاط أي سياسي عراقي ودخوله مع قائمة طويلة من الخصومات مع القوى السياسية العراقية. طبعاً، كان هناك مزلق آخر بالنسبة ل عادل عبدالمهدي فهو برغم انتمائه للمجلس الأعلى للثورة برئاسة عبدالعزيز الحكيم إلا أنه كانت لديه تحفظات كثيرة حول الطريقة التي يدير بها عبدالعزيز الحكيم الأمور بوصفه زعيم الأغلبية في «الإتلاف الشيعي»، ف عادل عبدالمهدي أستاذ الاقتصاد الذي اعتنق الماوية في زمن شبابه لم يعتبر لدى البعض إسلامياً خالصاً -أي منتمياً بالمفهوم الأيدلوجي- فهو انضم للمجلس الأعلى للثورة بدعوة من محمد باقر الحكيم -الملا البراجماتي الذي اغتيل في وقت كان العراق في أشد الحاجة إليه-، ومنذ انضمامه كان البعض في المجلس الأعلى يتهمونه بأنه أقرب للعلمانية منه للنموذج الثوري الإسلامي. أحس عادل عبدالمهدي بأنه إذا قبل بالمنصب في ذلك الوقت فقد كان سيكون حتماً تحت سيطرة المجلس الأعلى بزعامة عبدالعزيز الحكيم. أما بالنسبة ل عبدالعزيز الحكيم فهو قبل بالجعفري رغم أنه زعيم الأغلبية في «الإتلاف الشيعي» لأنه أدرك بأن بإمكانه إدارة الحكومة من خلال الجعفري -وهذا ماحدث للأسف-، ويكفي أن نذكر هنا فشل مشروع قمة التوافق العراقية التي عقدت في القاهرة، وهي فرصة ثمينة أضاعها كل من إبراهيم الجعفري، وعبدالعزيز الحكيم، وأثارت استياء القوى الكردية التي اعتبرتها فرصة قدمتها الجامعة العربية لإنقاذ الوضع وهي التي كانت بعيدة، أو مبتعدة عن الأزمة السياسية في العراق. كيف أخفق الجعفري؟ .. يكفي أن نقول بأن دوره كموحد للصوت العراقي لم يأت بالصورة المطلوبة، فهو بشكل غير مباشر تغاضى عن تدخلات جيش بدر في الشؤون الأمنية، وسمح للمجلس الأعلى وغيره من القوى السياسية بملاحقة كل من كانت لديه خصومة معهم تحت مظلة «ملاحقة حزب البعث»، ثم أغضب الأكراد مرتين: أولاً حين حذف من القسم القانوني للوزراء الجملة التي تلزم بالعمل على تحقيق الفيدرالية. وثانياً حين قاطع مراسم تنصيب مسعود البارزاني رئيسا لإقليم كردستان. أما المشكلة الرئيسية التي كان عليه في فترة رئاسته القصيرة هذه هي أن يتوصل إلى التوافق الطائفي لاسيما مع ممثلي القوى السنية الثلاث فقد عجز، أو لنقل لم يرغب في تحقيقه. نحن مع الجعفري في أنه يفتقر إلى وجود شريك سني بوزن وحجم ما لدى القوى الكردية، ولكن ذلك لا يعني تجاهل التسوية، وقد كان الهدوء النسبي والمشاركة السنية خلال الانتخابات الأخيرة مؤشراً على إمكانية العثور على توافق مع السنة وهو أمر تمنى الرئيس جلال الطالباني حدوثه. لقد قاد الزعيم الشيعي الراديكالي مقتدى الصدر جهود وساطة وحوار مع ممثلي القوى السنية خلال هذا العام لا أقول أكثر من الجعفري، فالجعفري في الحقيقة لم يقم بأي شيء يذكر لنزع فتيل الأزمة مع القوى السنية. إذا كنا مع الجعفري في رفض مسلسل الإرهاب الدامي الذي يحصد أبناء الشعب العراقي فنحن معه أيضاً في ضرورة خلق مناخ التهدئة والحوار لإجراء التوافق الطائفي المنشود، ولكننا لسنا معه في تصدير مشكلاته السياسية للدول المجاورة، إن السياسيين الواقعين في أزمات داخلية هم من يسعون إلى تصدير مشكلاتهم وتحميلها الغير، ف صدام حسين حملها إيران فترة ثم الكويت فترة أخرى، وكوريا الشمالية حملتها كوريا الجنوبية، والرئيس الإيراني نجاد اختار تحميلها إسرائيل في حين أنه عجز عن تسمية وزير للنفط في حكومته وكاد يفقد الثقة في البرلمان، والسلسلة لا تنقطع.. وسيظل هناك من يحمل الآخرين مشكلاته الداخلية فالدول كما الأفراد عاجزة في أحيان كثيرة عن تحمل المسؤولية ومواجهة الحقائق. ٭ زميل باحث بالمعهد الأوروبي للبحوث - جامعة برمنغهام [email protected]