(1) الحملة الوطنية التي تقوم بها وزارة العمل من أجل توظيف السعوديين تجابهها ثقافة مترسبة في عقول مقدمي الوظيفة في القطاع الخاص وهي ثقافة قائمة على فكرة الامتلاك، فالموظف أو الأجير ليس له حقوق بالصورة الإنسانية المتعارف عليها بل يجب أن يكون ضمن الممتلكات الشخصية لمقدم العمل. المسألة هنا تتجاوز "عدم المقدرة" على العمل التي عادة تلصق بالموظف السعودي إلى "دعم مقدرة" صاحب العمل على امتلاك الموظف السعودي. في اعتقادي أن هذه الفكرة نشأت وتطورت مع فكرة "الكفيل"، فقد صنع هذا النظام لدى البعض الإحساس أن من يعمل لديه تابع له ومتصرف في شؤونه، فهو لا يتنقل إلا بأذنه حتى إنه مسؤول عنه قضائياً ومتكفل به لو حدث له مكروه. فالكفالة فيها بعض الامتلاك حتى إن المكفول لا يحق له أن يعمل لدى شخص آخر حتى لو اختلف مع من استقدمه للعمل إلا بعد نقل الكفالة. (2) ربما حان الوقت أن نفهم الأثر الذي تركته آلية العمل هذه على ذهن القطاع الخاص في المملكة ولماذا نعتقد أن هذه الآلية تمثل أحد المعوقات لتوظيف السعوديين في الوقت الحالي. إذ أن عدم تحكم مقدم الوظيفة في الموظف السعودي يمثل في حد ذاته معوقاً أساسياً يحد من حماس القطاع الخاص للإقدام على التوسع في عملية السعودة، بل وابتكار العراقيل التي تدعم الصورة التي يحاول أن يرسمها البعض عن الموظف السعودي من عدم التزام وعدم مقدرة. ولعلي هنا أقترح على وزير العمل المثقف والأديب الشاعر الدكتور غازي القصيبي أن ينظم حملة ثقافية وإن شاء تثقيفية لبث روح جديدة لدى مقدمي العمل في القطاع الخاص تركز على أن الموظف شريك في العمل وأن له الحق أن يتطلع للمستقبل بقدر ما يتطلع له رب العمل وأن الولاء والإخلاص للعمل لا يتعارضان مع الطموح. فأحد الإشكالات التي تباعد بين القطاع الخاص وبين الموظفين السعوديين هو "الطموح"، إذ أن مقدمي الوظائف يرغبون في موظفين مخلصين دون طموح في الاستقلال، وهذا بالطبع ناتج عن ثقافة الاستحواذ والتملك التي صنعتها أنظمة العمل القائمة فما زالت عقلية هؤلاء تبحث عمن يتبعهم وهو مغمض العينين. (3) في اعتقادي أن التركيبة التاريخية لسوق العمل في المملكة لا تشجع فكرة السعودة، فحتى الحملة التي تقوم بها وزارة العمل لن تحل المشكلة لأن هناك رواسب ثقافية صنعت شخصية القطاع الخاص في المملكة، وما يمكن أن يكون مجدياً فعلاً هو أن يكون هناك تركيز في الفترة القادمة على بناء جسور الثقة بين الموظف السعودي وبين من يقدم له الوظيفة، وما أقصده هنا أننا بحاجة إلى تنظيم سوق العمل في المملكة وتطوير نظم وقوانين تجعل من شعار "الجزاء من جنس العمل" قاعدة أساسية في محاسبة الموظف السعودي بالإضافة إلى البحث عن السبل الكفيلة لتمتين العلاقة بين مقدمي العمل وطالبيه من السعوديين بدلاً من الشك والريبة اللذين يسيطران على هذه العلاقة في الوقت الحالي، لأنه مع استمرار هذا الوضع لن تجدي أي محاولة أو حملة لإقناع القطاع الخاص بكفاءة السعوديين في العمل، لأن كثيراً من مقدمي الوظائف مقتنع أصلاً لكنه يتوجس خيفة من بناء جيل من الشباب الذي يمكن أن ينافسه ويحتل مكانه في المستقبل. ربما يعتقد البعض أنني أبالغ في تصوير ظاهرة الخوف هذه على أن نظرة متمعنة ومتأنية للسوق المهنية تجعلنا نشعر ببعض تلك المخاوف التي تحرك البعض ضد أي سعودي جديد ممكن أن يدخل هذه السوق. ومع ذلك فإنه للإنصاف لا بد أن أشير إلى أن البعض يملك الوعي الذي يجعله يرى في الموظف السعودي استثماراً مجدياً وطويل الأجل ليس له شخصياً، بل للوطن. فلو أن كل مقدم للعمل نظرللأمرمثل ما ينظر إليه هؤلاء لما احتجنا فعلاً لمثل هذه الحملة التي تنظمها وزارة العمل. فالوزارة لن تستمر في حملتها إلى ما لا نهاية، وهو ما يجعلنا نبحث عن حل جذري يعتمد على إعادة تشكيل ثقافة العمل ليس فقط لدى الموظف السعودي بل قبله مقدم العمل في القطاع الخاص. (4) ومع ذلك فقد حاولت أن أفهم ومعي بعض الزملاء لماذا لا يرى رب العمل في المملكة في الموظف السعودي مجرد موظف، بل منافساً مستقبلياً؟ والحقيقة أنني لم أتوصل لأي إجابة إلا ما ذكرته في مقدمة المقال من أنها رواسب صنعتها ثقافة العمل وأنظمته والتي طورت لتنظيم العلاقة بين العامل الأجنبي وبين صاحب العمل المحلي، إلا أن هذا لا يعني أنه لا يوجد أسباب أخرى، ولعل هذه مهمة وزارة العمل، أي التعرف على الأسباب التي تزيد من الريبة وعدم الثقة بين الموظف السعودي والقطاع الخاص. فهذا الإحساس لا نجده في كل دول العالم، فالمواطنون في كل مكان يعملون في القطاع الخاص دون أن يرى فيهم أصحاب العمل منافسين لهم، بل إن البعض من أصحاب العمل يرون أن من واجبهم توظيف مواطنين وإكسابهم الخبرة حتى ينمو المجتمع ويتطور ويرون في استقلال هؤلاء مع الوقت إذا ما أثبتوا كفاءتهم حقاً مكتسباً يجب أن يشجعوه بدلاً من الوقوف أمامه. المشكلة من وجهة نظري تكمن في "ثقافة الندرة" التي تسيطر على القطاع الخاص وعدم تفهمه لقاعدة "الكل يكسب"، لأنه ليس مفترضاً عليهم أن يمنعوا الآخرين من الاستقلال وبناء أعمالهم الخاصة إذا ما كانوا قادرين على ذلك،وخير لهم أن يكونوا سبباً في تطور هؤلاء بدلاً من أن يكونوا سبباً في تهميشهم ودفعهم لليأس وبالتالي خسارة المجتمع لطاقات قد يكون كثير منها مبدعاً ومؤثراً في مسيرة التنمية. (4) إحدى التجارب التي حاولت أن أقوم بها لفهم طبيعة السوق المهنية في المملكة هي العمل مع بعض طلاب الدراسات العليا على دراسة "ثقافة السوق" كقضية يمكن ربطها بعدد من القضايا المؤثرة، في المهنة. وقلت لهم دعونا نفهم لماذا لا يشجَّع المهندس والمعماري السعودي للعمل في القطاع الخاص مع أن المملكة يوجد بها آلاف من المهندسين الأجانب ورغم أن عدد خريجي الهندسة والعمارة مقارنة بحاجة المملكة الفعلية لهم قليل جداً. وفعلاً قمنا بوضع إطار نعمل من خلاله ينظر للمهنة كسوق وتنظيم قانوني وطبيعة مهنية وتعليم وثقافة مجتمعية وانتهينا إلى أن هناك مقاومة في السوق للمهندسين والمعماريين الشباب نتيجة عدم تطور السوق نفسه وثقافة العمل الفردي الذي ينظر للآخرين نظرة شك وريبة وأن كل معماري ومهندس سعودي جديد هو عنصر منافس. واكتشفنا أن هذه النظرة متجذرة في أغلب المكاتب الصغيرة والمتوسطة وبعض المكاتب والشركات الكبيرة (المملوكة ملكية خاصة وليست المساهمة)، إذ أنه حتى مع دعم صندوق الموارد البشرية لم تتشجع تلك المؤسسات على استيعاب السعوديين لأنه لم يكن المانع مادياً فقط بل الخوف من التنافس المستقبلي خصوصاً مع غياب الأنظمة والقوانين التي تجعل من فتح مكتب جديد مسألة بحاجة إلى تفكير متأن. (5) ومع ذلك لن أقول إن هذه الظاهرة تتكرر في كل المهن إلا أننا عندما بدأنا نتعمق في طبيعة المهنة وارتباطها بالقضايا الأخرى تأكد لدينا أن لكل مهنة ظروفها الخاصة المرتبطة بطبيعتها لكنهم جميعاً يشتركون في التأثر بالثقافة المجتمعية التي تولد الشك والريبة من المنافس الجديد. وفي اعتقادنا أن هذه الظاهرة هي الأخطر على مستقبل السعودة لأنها تؤدي إلى التشظّي وعدم بناء ثقافة العمل الجماعي وتوارث الخبرات، لأنها وببساطة ستؤدي إلى تزايد من يعملون بمفردهم في مكاتبهم الخاصة وتزايد أعداد العمالة الوافدة حول "المركز السعودي" الذي لم يكتسب خبرة ممن سبقه في السوق أصلاً. على الأقل هذه الظاهرة يمكن مشاهدتها بوضوح في مجال العمل الهندسي حيث يوجد بالمملكة أكثر من 2000مكتب هندسي يعمل فيها عدد قليل من السعوديين (أكثرهم من الملاك أو السعاة) بينما لا يوجد في دولة مثل كندا أكثر من 500مكتب. فظاهرة الخوف من التنافس دفعت البعض لعدم استيعاب المهندسين الشباب ودفعت هؤلاء الشباب إلى البحث عن فرص أخرى تمكنهم من ممارسة مهنتهم في القطاع الخاص. (6) أعود مرة أخرى لأقول إن ثقافة الامتلاك التي عليها القطاع الخاص في الوقت الراهن لها تأثيرها السلبي العميق على التنمية وتفعيل فكرة السعودة التي نجدها تتراجع مع مرور الوقت، حتى إن وزارة العمل صارت تفكر في فرض عقوبات تجبر القطاع الخاص على توظيف السعوديين، بينما كان يفترض أن تكون السعودة عن قناعة لأنه دون هذه القناعة سيولد بطالة مقنعة، بدأت تتشكل فعلاً، إذ أن هناك العديد من المكاتب والمؤسسات التي تسجل موظفين سعوديين وهميين موجودين اسماً ولا يعملون أبداً مقابل مبالغ مالية رمزية في سجلاتها ترضي الجهات المختصة وتحصل على نصاب سمين من تأشيرات العمل (أي أن السعودة استخدمت ضد مصالحها ولزيادة أعداد العمالة الوافدة). الهدف تحول من إيجاد فرص عمل للسعوديين إلى التحايل على الأنظمة، وهو أمر طبيعي في ظل الابتعاد عن القضايا الجوهرية ومحاولة حل المشكلة من جذورها إلى الشكليات المؤقتة. وكما هو معروف فإن خطة مصيرية مثل السعودة لا يمكن أن تتحقق بالقوة أو بالشعارات ولا بمجرد تنظيم حملات التوظيف ولكن بتعديل الثقافة السائدة في سوق العمل وتدريب الكوادر وإعادة تنظيم المهن.