تعتبر الخلافات الاجتماعية والشخصية جزءا من الحراك الاجتماعي الطبيعي، فالناس في تفاعلهم الاجتماعي مع بعضهم البعض معرّضون للإخلال بحقوق بعضهم البعض، أو الإخلال بالنظام العام والقيم الأساسية للمجتمع، والوسيلة لفض الاشتباك في مواضع النزاع تكمن في إرساء القوانين ووضع الأنظمة الضابطة للحقوق والواجبات والراصدة للتجاوزات والمرتبة للعقوبات. «هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» في المملكة العربية السعودية مؤسسة حكومية -كغيرها من المؤسسات المشابهة- تقوم بمهمة خاصة في ضبط نوع خاص من التعديات الاجتماعية أو الإخلال بالنظام العام والقيم الأساسية للمجتمع وتحديدا في الجانب الأخلاقي. في الدين الإسلامي يعتبر مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مبدأ إسلاميا كبيرا وحيويا، كان ولازال وسيظل من مميزات هذه الأمة ومن شعائرها التعبدية الموصلة للرقي الحضاري والمحافظة على توازن المجتمع في شتى المناحي، وهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بصيغتها السعودية هي مؤسسة مدنية بشرية تحاول تطبيق هذا المبدأ على أرض الواقع السعودي باجتهاد خاص. أحسب أن التفريق بين الأمرين ضروري وملح، فإنكار الأول إنكار لجزء من الشرع جاءت به النصوص الشرعية بوضوح، وإنكار الثاني أو انتقاده ليس كذلك بحال فهو انتقاد لجهد واجتهاد بشري على مستوى الفكر المنظم للتطبيق والبناء الهرمي الإداري والتخصصات المناطة بهذه المؤسسة المدنية وآلياتها في التطبيق والحركة. بالإضافة إلى هذا فإن هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، اسم مؤسسة مدنية يحمل مبدأً دينيا وقد كان للتسمية دور في التأثير على صورة المبدأ من نواح متعددة منها أن المبدأ كان عاما في الاحتساب على كل خلل في المجتمع من الدولة ومؤسساتها إلى التجار في أسواقهم والصناع في مصانعهم والنظر في المظالم ونحو ذلك كثير، بمعنى أنه يدخل فيه بالصيغ المعاصرة شؤون البلديات والرقابة على المال العام ونحو ذلك من المؤسسات الرقابية، والمؤسسات الأمنية وغير هذا من المؤسسات ذات العلاقة. إذاً فهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر السعودية لها مهمة خاصة وجزئية داخل هذا المبدأ الديني الكبير، ومهمتها الخاصة لها علاقة مباشرة بخصوصيات الناس والمجتمع وسلوكياتهم الأخلاقية من صلاة وحجاب ونحوها، لقد كان من أثر هذا التخصص اجتماعيا، أن رسخ في العقل الجمعي للمجتمع موقفا مستريبا ورافضا ذلك أن التدخل في الخصوصيات الإنسانية غالبا ما يثير البشر ويستفزهم خصوصا عندما رافق التطبيق الكثير من الخلل والأخطاء. كذلك فإن من صور تأثير الاسم على المبدأ أنه لم ينشر بعد نظام واضح للهيئات يحدد صلاحياتها ومجالاتها وآلياتها بشكل دقيق يكون واضحا للمواطن العادي من الناحية القانونية والنظامية، وهي للحقيقة ليست الوحيدة عندنا، فنحن نعيش فوضى قانونية مزرية، نتمنى أن تكون التقنينات والتشريعات الجديدة باكورة خير في إعادة رسم المشهد القانوني والنظامي بشكل كامل، وعدم صدور نظام واضح للهيئة جعل المجال مفتوحا أمام تكرار الأخطاء في التطبيق في أمور تتسم بالحساسية الاجتماعية الشديدة، ويزيد الطين بلّة أن الناس يتناقلون أخبار تلك الأخطاء بشكل عاطفي يؤثر بالتالي على المبدأ نفسه. ومن صور التأثير كذلك، إحساس القائمين على الهيئات بأنهم يمثلون «المبدأ الشرعي» وليس «التطبيق البشري» وهو ما يجعلهم يقفون موقف العداء إزاء أي انتقاد يوجه لهم، لأنهم يعتقدون أنهم يمثلون بأشخاصهم وأفعالهم «مبدأ مقدسا» لا يجوز المساس به ومن تجرأ على نقده فلا بد أن يصنف على أنه من أعداء الدين، وذلك خطأ جسيم تشكل في عقل الكثير من رجال الحسبة جراء تفانيهم وإخلاصهم في التطبيق وفي محاولة تمثيل المبدأ الإسلامي الكبير على أرض الواقع، مما يجعلهم يحسون بالتماهي مع المبدأ وبأنهم المخولون بتمثيله مما يؤثر سلبا على المبدأ ذاته. ولحل مثل هذا التداخل بين المبدأ والمؤسسة من حيث الاسم والفكرة والموقع الاجتماعي والتخصص فإني لا أجد حرجا في اقتراح أن يغيّر اسم الهيئة من «هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» إلى اسم «الشرطة الأخلاقية» أو أي اسم مقارب يجنبنا المحاذير السابقة ويعبر بصراحة عن تخصص هذه المؤسسة الحكومية، بحيث يحس الناس العاديون والأفراد الموظفون في هذه المؤسسة أن الهيئة عبارة عن «مؤسسة مدنية» مثلها مثل غيرها كالبلديات والشرطة ونحوها ولا تحمل أي قداسة خاصة وعندئذ تخف حدة الخلافات والشحن العاطفي في الجانبين، على أن يرافق ذلك نشر نظام قانوني واضح يبين كل ما للهيئات وما عليها. ونحن نرى اليوم كم تعاني الهيئات من مشكلة القراءات المختزلة لدورها والمواقف المسبقة منها، تأييدا أو معارضة، فالكل يختزل وينظر لجانب من الصورة دون غيره فالجانب المؤيد يركز على أهميتها ودورها المهم في رعاية المجتمع وتعب أفرادها واحتسابهم في أداء دورهم المهم، ويتغاضى عن أخطائها أو يمر عليها مرور الكرام ويحاول أن يتمحل لها التخريجات والأعذار، وبالمقابل فإن الجانب الرافض يركز على أخطائها وزلاتها ويتغاضى عن إنجازاتها،حتى في مجالات ليست من صميم اختصاصها، كدورها مثلا في محاربة المخدرات حيث فاقت نجاحاتها في بعض السنين نجاحات المديرية العامة للمخدرات مما يدل على إمكانية الاستفادة من هذا الجهد وهذا الإخلاص إذا تم إصلاح الوضع. لا يملك إلا ان يكون هكذا، مع حرصه وإخلاصه وصدقه فالخلل ليس فيه بل في نظام المؤسسة كله وهنا يجب أن تتحمل المؤسسة أخطاءها، إن ما نقرأه هذه الأيام رغم ما فيه من تجاوزات أحيانا على الهيئة ودورها يمثل جزءا من نقد المؤسسات المدنية علنا وبكل شفافية وعلى صفحات الجرائد وهو ما لم يكن ممكنا قبل سنيات معدودة وكذلك نقد المسؤولين عن تلك المؤسسات وإن كانوا بمرتبة وزير، وهي خطوة بالاتجاه الصحيح نحو محاسبة كل مسؤول على أخطائه بحسب صلاحياته وإمكانياته ومسؤولياته وهو فعل حضاري نرجو تطويره ورعايته حتى يشمل الجميع. وتخطئ الهيئة أو القائمون عليها حين يحسبون أنهم الجهاز الوحيد في العالم الذي يعتني بمثل هذا الاهتمام والتخصص، فالتجارب العالمية في هذا المجال متطورة ومتقدمة ومنظّمة، ويمكن بشيء من الاطلاع عليها وعلى قوانينها وآلياتها أن نكتسب خبرة كبيرة في هذا المجال وأن نطوي المراحل في اتجاه تصحيح الخطأ وترشيد العمل. بسبب واقع هذه المؤسسة الحكومية، وطبيعة تخصصها وحساسيته الاجتماعية والإنسانية، فإن من وسائل إصلاح الخلل في هذه المؤسسة إصدار نظام معلن لهذه المؤسسة يوضح تخصصها وواجباتها ومسؤولياتها وإعلان هذا النظام للكافة، ومن وسائل الإصلاح كذلك أن تكون ثمة شروط علمية لمن يريد الانضمام لهذه المؤسسة المدنية بحيث يكون مستواه العلمي مناسبا لمهمته الحساسة، كما أن من وسائل الإصلاح أن يخضع أفراد الهيئة لدورات علمية وتدريبية حول طريقة التعامل مع الأخطاء والمخالفات التي تقع ضمن تخصص الهيئة، الدورات العلمية لتعليم الأفكار الأساسية التي تسعى لها الهيئة من نشر العدل والستر والتعامل بالرفق واللين والأدب، والدورات التدريبية لإكساب أفراد الهيئة مهارات التعامل مع الأفراد والوقائع الواقعة ضمن تخصصهم، ومن وسائل الإصلاح كذلك أن يتمّ وضع زيّ خاص برجال الهيئة، وأن يوضع اسم كل فرد في بطاقة صغيرة على الزي -كما في لباس رجال الشرطة-، وذلك لأن الزي يحدّ من انتحال الأفراد العاديين لدور رجال الهيئة، والاسم يجعل أفراد الهيئة أمام مسؤولية أخلاقية ونظامية أكبر.