في الصفحات الثقافية السعودية حديث متواصل، منذ أسابيع، حول صيغة «النادي الأدبي» أو «الأندية الأدبية» المعتمدة في الممكة منذ سنوات بيعدة. فهذه الصيغة، بنظر بعضهم قد استنفدت أغراضها وعفا عليها الزمن ولابد من البحث عن صيغة، أو عن صيغ أخرى، للعمل الأدبي والثقافي. أما في الصفحات الثقافية العربية خارج المملكة، فالحديث مستمر ومنذ سنوات، لا منذ أسابيع أو أشهر عن صيغة «الاتحادات الأدبية» القطرية، وعن صيغة «الاتحاد العام للأدباء والكتّاب العرب» الذي يضم عادة الاتحادات القطرية وله أمانة عامة متنقلة مرتبطة بالأمين العام للاتحاد. فإذا كان الأمين العام عراقياً كانت الأمانة العامة في بغداد، وإذا كان سورياً، كان الأمانة العامة في دمشق، وهكذا. وفي رأي أكثر - إن لم نقل كل - الذين يكتبون بين الوقت والآخر عن صيغة «اتحادات الكتّاب»، سواء القطري منها أو القومي، أن هذه الصيغة لم تنجح يوماً، أو لم تنجح إلا نادراً. «فاتحاد الكتّات» القطري هو عادة اتحاد كتّاب، لا اتحاد أدباء. اتحاد الكتّاب همومهم سياسية لا أدبية. وهم في العادة ممن لا شأن لهم لا في دولة الأدب ولا في دولة الثقافة، وإنما للدول العربية أو للحكومات العربية في وجودهم شؤون.. فهم عيون على الأدباء والمفكرين والفنانين الآخرين الذين لا يوالون النظام الحاكم. وإليهم توكل الدولة أمور الثقافة وقضايا الإرشاد والتوجيه والدعاية والإعلام.. وكثيراً ما تتدخل الدولة لتعيين المسؤولين عليها ويكون المسؤولون مرتبطين إما بوزارة الثقافة وإما بأجهزة الأمن، أو بالاثنين معاً. وقد يمضي زمن طويل على تسلّم هؤلاء المسؤولين لأعمالهم في الاتحادات فلا يتغيرون إلا بالوفاة، أو بالعجز، أو نتيجة احتجاجات عامة من الموالين للسلطة، مفادها: «إن الجميع في خدمة الدولة، أو النظام، أو الحزب، ولكن رحمة بهذه المسألة، أو بتلك، نرجو التغيير، وكلنا في خدمة الدولة والنظام والحزب». وقد عُرف هذا النوع من اتحادات الكتّاب في أكثر الأقطار العربية، وبخاصة في الأقطار العربية التي يحكمها الحزب الواحد، ولكنها عُرفت أيضاً في أقطار عربية أخرى، ولو بصيغة قريبة من صيغة أقطار الحزب الواحد. ففي لبنان على سبيل المثال، وبعد أن انقرضت منذ الستينيات من القرن الماضي صيغة «اتحاد الأدباء»، أو صيغة «الجمعية الأدبية»، نشأت الصيغة الحالية التي تعتمد على تجمع مثقفي أحزاب سياسية مؤتلفة أو منضمة إلى جهة سياسية واحدة. فمنذ أكثر من ثلث قرن، تتألف الهيئة الإدارية «لاتحاد الكتّاب» اللبناني من حزبيين شيوعيين، أو كالشيوعيين. فالطابع العام لهذا الاتحاد شيوعي عادة أو يساري. ويُراعى في تكوين هيئته الإدارية أن تضم ممثلين للأحزاب، كان يكون للحزب الاشتراكي ممثل، وللحزب القومي السوري ممثل، وللمسيحيين التقدميين أو الوطنيين، كما يُسَمّون، ممثل. وهكذا، ولكن لأنه لم يوجد في لبنان مرجعية سياسية أو ثقافية واحدة، فكثيراً ما تدخل السوريون لتشكيل هذا الاتحاد ولتعيين أمينه العام. ومع أن الاتحاد - كما يقال - يضم حوالي 800 عضو في صفوفه، فليس بين أعضائه سوى قلة قليلة من الأدباء الحقيقيين أمام المتبقون فمن مثفي الأحزاب ومناصريها. وكثيراً ما يكون الأمين العام لهذا الاتحاد القطري العربي أو ذاك قويسيماً ثقافياً للحزب، فصله الحزب للعمل في الاتحاد، أو لإداته. وكثيراً ما يستغلّ الحزب هذا الاتحاد لتزكية سياساته وإصدار بيانات ولاء وثناء له. ولا تجد الدولة أدنى متاعب في علاقتها مع هذا الاتحاد. فهو أداة طيعة في يدها. ولكنها قد تجد بعض المتاعب إذا ما اجتمعت هذه الاتحادات القطرية بعضها مع بعض في «اتحاد عام» يضمها. فهناك الاصطدام الذي لا بد منه والذي ينتصر فيه في النهاية من يمكنه جمع أكبر عدد من الأصوات، أو الاتحادات القطرية. وعلى مدى الثلاثين سنة الماضية حصل تجاذب مرير بين عاصمتين عربيتين هما بغداد ودمشق، يتعلق بمن يسيطر على الاتحاد ويستخدمه لأغراضه. في البداية سيطر العراقيون (زمن شفيق الكمالي) ثم سيطر السوريون بشخص علي عقلة عرسان سنوات طويلة. وإذا كانت الفترات التي كان يطل فيها الأدب برأسه قليلة، فقد كانت كثيرة تلك الفترات التي سيطرت فيها السياسة، والسياسة الحزبية على الخصوص، حتى تحول «الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب» مع الوقت إلى «بيان» لا أكثر: بيان لا يختلف في شيء عن بيانات وزراء الخارجية إذا اجتمعوا: «يؤيد المجتمعون نضال الشعب الفلسطيني أو الجزائري.. ويستنكر ما تتعرض له الجماهير في هذا البلد أو ذاك، ويطالب المجتمعون بكذا وكذا». وإذا كان أحد قد التفت يوماً إلى هذه الاتحادات القطرية أو إلى الاتحاد العام، وقرأ بيانات شجبها واستنكارها وتأييدها واحتجاجها، فإن أحداً مع الوقت لم يعد يلتفت ولم يعد يقرأ، إذ يكفي أن يقرأ مرة ليعرف ما الذي ستقوله في كل مرة. ومع الوقت فقدت هذه الاتحادات كل شرعية مفترضة أو مطلوبة كبديل عن هذه الاتحادات، وربما كبديل أيضاً عن النادي الأدبي إذا ما تقرر إنهاء الصيغة المعمول بها حالياً، يرى كثيرون في «الجمعية الأدبية»، أو في «اتحاد الأدباء» تلك الصيغة البديلة. أولاً من شأن الجمعية الأدبية أن تكون رابطة أدباء بالدرجة الأولى. رابطة أدباء معنيين بالأدب، منصرفين إليه، لا رابطة كتّاب عينٌهم على السياسة وافتتاحية صحيفة الحزب ونضال الشغيلة والعمال الفلاحين ومعهم ماكسيم غوركي.. ومن شأن الجمعية الأدبية أن تشيع مناخات الإبداع والتحديث والحضّ على التأليف والترجمة والنشر ومقابسات الفكر والروح. ومن شأن الجميعة الأدبية الاهتمام بالشؤن المطلبية البحتة، ومنها توفير ضمانات الحد الأدنى من الحياة الكريمة للأدباء، وتأمين شيخوختهم، وما إلى ذلك مما شاع عن اتحادات الكتّاب العربية، وضاع في الوقت نفسه. أشاعت هذه الاتحادات أنها تهتم باقضايا المطلبية، فإذا بهذه القضايا تنحصر بأمور لا تقدم ولا تؤخر في حياة الأديب اليومية. أما الكتب التي تولت هذه الاتحادات طبعها، فقد كانت في الأعم الأغلب من الغث الذي يشرح تعاليم الحزب والقائد المؤسس وما إلى ذلك من المطبوعات. بعد تجربة ثلث قرن مع اتحادات الأدباء القطرية التقليدية، يجد المراقب أن الأدب في هذه الاتحادات كان ضامراً، ضعيف البنية، إن لم يكن مفتقداً بوجه عام. وليس هناك «كالجمعية الأدبية» أو «اتحاد الأدباء» صيغة بامكانها أن تقدم جرعة حقيقية للأدب ولأهله. ولكن لنحذر إشاعة الاطمئنان إلى الجمعية الأدبية كبوابة نحو الإبداع الأدبي، أو نحو تكوين أو تأسيس نظريات وتيارات أدبية جديدة. فتاريخ الإبداع الأدبي في العالم، كما يقول الشاعر المكسيكي أوكتافيو باث، لم يسجل يوماً أن جمعية أدبية، ولو رائدة، قد أعطت نظرة أو نظرية أدبية ذات شأن. فالإبداع الأدبي فردي بطبيعته، وخلود الأديب إلى ذاته، أفضل ألف مرة من توقعه ولادة هذا الإبداع من ندوة أو دراسة أو جمعية أدبية. ولكن لا شك أن المناخات التي توفرها الجمعية الأدبية للأديب، تساعده في تطوير قابلياته وفي إضافة الكثير من الرؤى إلى رؤاه الخاصة. على أن أحوج ما يحتاجه الأديب العربي في واقعه الراهن، هو بنظرنا، تأمين ضمانات الحياة اليومية وضمانات المستقبل. أو أن هذا هو ما يُستنتج من التجربة الكئيبة لاتحادات الكتاب العربية القطرية ومن تجربة الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب على السواء.