ما تمر به الآن بعض المناطق في آسيا وشرق أفريقيا من زلازل وطوفان اجتاح القرى وأغرقها مع قاطنيها أو مرتاديها للسياحة أمر مفزع إذا ما تمت رؤيته وقراءته وفق المستوى النفسي والإنساني، فالجثث الملقاة على أطراف ما بقي من القرى أو المنتجعات السياحية تعيد إلى الأذهان ما هو في القصص القرآني عن القرى التي أهلكها الله عندما عصت تعليمات أنبيائها.. فالدمار التاريخي بأبعاده المختلفة ما كان ليحيق بجماعة ما إلا بسبب ما كان فيها من ممارسات خارجة عن السياق النظامي أو الخُلقي أو القيمي.. فقصص كل نبي من أنبياء الله وجهاده في هدي أمته توضح كيف كانت نهاية كل حالات العصيان التي تمارس ضد هؤلاء الأنبياء والهداة المهتدين. وكما كانت أبواب السماء مشرعة لمن يريد الخير والاستزادة من الفضل ممن تستقيم خطاه وفق الناموس الاستخلافي له الذي يرسم الحدود التي ترتفع على المستوى النفسي والقيمي والأخلاقي للفرد وللمجتمع.. في علاقة تبادلية يتغير فيها هذا الإنسان من مرحلة الغريزة إلى مرحلة السمو والخُلق والفعالية والبناء.. فيحدث التغيير في مجتمعه كي يثمر في مناخ صالح للبناء وليس للهدم.. فإن هذه الأبواب ذاتها قد تسقط العذاب لمن يتمرد على السياق الشرعي لحركة البشر على الأرض. .. لست هنا أتحدث عن هؤلاء الذين ماتوا في هذه الزلازل وطغيان التيارات المائية وتدميرها للمناطق وناسها وأتهمهم بارتكاب المعاصي.. ولكن أستحضر في الذاكرة ما كان يُروى من عذاب القرى وتدميرها الذي جاء في القصص القرآني والتي هي عبرة لمن يعتبر.. والقرآن الكريم نجد فيه المواقف التي يمر بها العاصي والمتكبر والمغرور بماله كما في قارون وكيف في لحظة واحدة تم هلاكه وخُسف به الأرض مع ممتلكاته.. فهل يأمن الإنسان منا ممن يعيش الآن ويمارس الظلم والفساد وسرقة أموال الضعفاء أو يستمرئ الربا أو يستثمر أمواله في ما هومعصية له وإفساد لسواه.. هل يأمن من لحظة عقوبة تمر به لا يعرف متى تحدث ولا كيف ستحدث؟.. هل تساءل من طغى وتجبر وأصم أذنيه عن سماع أصوات من ظلمهم بدعوى أنه يمارس القرار الصحيح أو ينفذ نصيحة المستشارين حوله ممن يشكلون احياناً بطانة فاسدة تحجب الحقيقة عن الوصول لهذا الإنسان فيستمرئ الظلم وهو يعتقد أنه (نظامي) ويستطيب له الموقف الخطأ وهو يظن أنه ممدوح لدى الآخرين!! ما نحتاجه دائماً بصفتنا بشراً ضعفاء أن نعزز الحس الديني الكامن في نفوسنا.. نفجره في لحظات الصفاء والتأمل والعبرة مما يحدث حولنا.. هذا الحس الذي يتعاظم في لحظات المخاوف والمخاطر والأحزان.. هذا الحس كما يرى العديدون من علماء النفس البشرية يعود إلى حاجة الإنسان العميقة والموغلة في الذات إلى قوة أكبر من قواه المحدودة الزائلة يحتمي بها من ضعفه الحقيقي ومن مواجهته للأحداث حوله.. والموت دائماً هو التحدي الخطير الذي يضع الإنسان في مواقع التوتر والفعل والتغيير.. الخوف من الموت في نسق الحياة للفرد منا هو الحقيقة التي أحياناً لا نفكر فيها ولا يستعد لها بعضنا كما ينبغي لها.. وهي القيمة الإيجابية الفاعلة في التاريخ البشري فالخلود ليس هنا على الأرض.. بل هو في الآخرة.. فكيف نستعد لرحلة الخلود؟ هل سأل كل منا نفسه هذا السؤال؟ وهو يتابع مشاريعه التجارية والصفقات المالية التي يعقدها هنا وهناك؟ وهو يحزم حقائبه لرحلات الاستجمام إلى جزيرة هادئة أو إلى مدن صاخبة؟ نستعد في حقائب السفر على توفير كل ما نحتاجه لهذه الرحلة من ملابس وأحذية ومقتنيات ثمينة.. فلماذا لا نزود هذه الحقيبة بتذكرة ومتطلبات رحلة الخلود التي لا يدري أي منا متى ستكون؟.. تماماً مثلما غاب آلاف الأشخاص في مناطق الكوارث على مدى الأيام الماضية وهم يمارسون أعمالهم أو سياحتهم!! فسنغيب نحن أيضاً ولن تنفعنا كل شهادات التكريم التي حزنا عليها في الدنيا أو جوائز التقدير أو مؤلفات لا تحمل شيئاً من ميثاق العمل الذي يؤجر عليه الفرد المسلم.. هل فكر كل تاجر ومسؤول قبل انجاز عمل أو صرف أموال أو اتخاذ قرار يؤثر في مسارات حياة الأفراد.. إلى أي مدى يتطابق هذا القرار أو العمل مع نموذج الحق والواجب للمهنة وللمكان وللفرد وللمجموع. وهل فكر كل كاتب بجوهر ما يكتب؟ومدى مطابقته أو مخالفته للتشريع .. لست واعظة.. ولكن أدرك مثل غيري أن كل أعمالنا وجوارحنا ستشهد علينا يوم الحساب: وحياتنا ميدان تجربة لكيفية طاعتنا لنموذجنا الحياتي شرعياً كما جاءت في النموذج القرآني والهدي النبوي.. ويجيء الموت بمثابة إنهاء التجربة.. وبعدها تبدأ مرحلة الحساب.. ولا عمل.. وهي وقفة رهيبة تختفي عند جزئياتها كل أضواء هذه الدنيا ومباهجها.. فالموت لا يُستثنى من واقعته أحد.. {إنك ميت وإنهم ميتون}... صدق الله العظيم.