انتهيت من ترتيب بعض الكتب التي أحضرتها من امبابة إلى المقطم، ثم تناولت القصافة والمفك، وأمسكت شريط اللحام بين أسناني وصعدت السلم المعدني المفتوح وسط الحجرة لكي أصلح البوابة، وكانت دماغي عند السقف حين سمعت جرس الباب وهو يرن. فترة قصيرة وأطل الولد برأسه رفع وجهه وقال: «واحدة عاوزاك» «مين؟» «يمكن البوابة اللي اشتغلت في العمارة اللي جنبنا». «دخلها طيب، وهات لي بنطلون» كنت في مباذلي المنزلية، وكان أكثر من شهر على آخر مرة رأيتها فيها. انتظرتني تحت أغصان الشجرة الكبيرة بجسدها الضئيل وجلبابها القديم وطرحتها الخفيفة السوداء وقالت بإقتضاب: «عاوزة 18 جنيه، علشان اشتري السلك». «سلك إيه؟». «سلك السماعة؟» «سماعة التليفون». «لأ. السلك بتاع سماعة الودان». كانت تتحدث وهي تضبطها في أذنها اليمنى. وأنا ارتديت بنطلون البيجامة على ساقي العاريتين وخرجت. «أهلاً وسهلاً». كانت تجلس إلى أحد المقاعد الموجودة حول ترابيزة السفرة المستديرة وراء المدخل. وسحبت كرسياً وجلست. وهي مدت يدها بنقود وقلت: «إيه ده؟». تابعت شفتي بعينيها الدقيقتين، ثم أخرجت سماعة الأذن وانشغلت بارتدائها وقالت: «بتقول إيه؟». «باقول إيه ده؟». «ده باقي الخمسين جنيه اللي إديتها لي». «بقى ده كلام؟» قالت: عاوزاك تكتب لي العنوان الجديد، علشان ابعته للواد». سألتها عن أي ولد تتكلم، وفهمت أنه ابنها الذي سافر للعراق قبل ثلاثة عشر عاماً. وقلت: «بيشتغل هناك؟» «بيشتغل». «طيب ما تخليه ييجي ويشتغل معاك في العمارة». «أما يجيني منه جواب أقول له». «هو ما بيكتبش ولا إيه؟» «لأ. بس انا باكتبله». بين جملة وأخرى كانت تجذب طرف الطرحة الخفيفة وتداري فمها أثناء الكلام، ولم تكن تنظر إلي. طلبت ورقة وقلماً وكتبت لها العنوان وقلت: «ما كتبش خالص؟». «كتب مرة أول ما سافر». وقامت واقفة. ومدت يدها تنزع السماعة عن أذنها وأنا لحقتها وقلت: «الله. إنت بتقلعيها ليه؟» كانت تسندها بأصابعها وهي تقول: «أصلها بتعمل وش في دماغي. علشان كده بأقلعها بالنهار. لكن بانام بيها». «حد يقول كده. تقلعيها وانتي بتشتغلي، وتلبسيها لما تنامي؟» قالت: «علشان إذا الواد جه بالليل وخبط، أسمعه». ووضعتها في جيب جلبابها الجانبي واتجهت إلى الباب. وكانت زوجتي خرجت من المطبخ وهي تحمل الصينية وقالت وراءها: «الشاي». ولكنها لم تسمعها.