كان من السائغ في سبعينيات القرن الهجري الرابع عشر (خمسينيات القرن الميلادي العشرين) أن يقوى أثر المناهج النقدية الحديثة ذوات الاتجاه الواقعي، وأن يعزز ذلك الأثر بالمقالات النقدية التي نشرها عبدالله عبدالجبار في الصحافة، ممثلة انتقاله، وهو الناقد الجامعي، من الدراسات الأدبية التاريخية والنفسية، إلى النقد الواقعي الذي كان رائجاً في أثناء انتقاله إلى القاهرة، وكان جماع ذلك النظر صدور كتابه «التيارات الأدبية الحديثة في قلب الجزيرة العربية: 1379ه/1959م»، أول كتاب في النقد المنهجي في المملكة، معبراً عن انتصاره للأدب الواقعي ومنافحته عنه، وتوسله برؤية نقدية ذات مسوح إيديولوجية هي بعض أفياء ذلك العصر، ويظهر ذلك في أخذه بالواقعية الاشتراكية منهجاً في النقد وعقيدة في الأدب، وفحصه عن تمثل الشعراء السعوديين للمذاهب والتيارات الأدبية الحديثة، ودعوة نفر منهم إلى قضايا الالتزام وتهديف الأدب، مما كشف عنه عبدالجبار في كتابه، الذي كان في أصله محاضرات ألقاها طلبة الدراسات العربية العالية في معهد الدراسات العربية في القاهرة، وكشف فيه عن أن ما كان يظن «قارة مجهولة» يخبئ في أعماقه جدلاً محتدماً، وينبئ عن تعقد في أنماط الحياة. ولم يكد يمضي غير سنة على صدور «التيارات الأدبية الحديثة في قلب الجزيرة العربية»، حتى يصدر كتاب «شعراء نجد المعاصرون: 1380ه/1960م»، لعبدالله ابن إدريس، الذي كان قد تخرج قبل ذلك بيسير في كلية الشريعة بالرياض، وقد كان من الطبيعي أن يهيئه اختلافه إليها إلى أن يكون قاضياً شرعياً أو معلماً للدين وأصوله، غير أنه أشاح بوجهه عن ذلك، وقصد إلى الثقافة الحديثة، والشعر والنقد بوجه خاص، وأنبأ كتابه الذي جمع طائفة من آثار الشعراء النجديين، على عهده، مصدرة بمقدمة نقدية طويلة - عن أن رياح التغيير قد أحدثت أثرها في صحراء نجد الملتهبة التي كانت، حتى ذلك الحين، مسكونة بأصداء الدعوة السلفية، ولم يزل أبناؤها مشدودين إلى الآثار الشعرية التي صيغت في المنافحة عن تلك الدعوة والذود عن حياضها، وكان اشتغال عبدالله بن إدريس بالشعر الرومنسي والواقعي، وتوفره على النقد الأدبي، واشتغال شعراء نجد من الشبان، في تلك الأثناء، بالقصيدة الجديدة - علامة على ولادة الثقافة الحديثة في تلك المنطقة، التي رعاها وغذاها، قبل ذلك، حمد الجاسر، الذي يمكن عده، بحق، أبا الثقافة الحديثة في نجد. وبين هذا وذاك، كانت الصحافة السعودية مشدودة إلى معالم الأدب الحديث والنقد الحديث، تنبئ عن ذلك مقالات عبدالله عبدالوهاب عن الأديب والمسؤولية الاجتماعية، ومحمد سعيد باعشن الذي كان يبشر بشعر صلاح عبدالصبور والشعر الجديد، ومحمد عامر الرميح الذي كان مشغوفاً بمدرسة مجلة «شعر» وبشعرائها أدونيس وأنسي الحاج ويوسف الخال، وإبراهيم الناصر وعبدالرحمن الشاعر وقد كانا في تلك المدة مفتونين بأصداء المد القومي والنزعة الواقعية، وأن تنشب في صحافة تلك المدة معارك ومناوشات حول القصيدة الجديدة، والقومية العربية، ما إن تهدأ حينا حتى تشتعل من جديد، وأن تخرج المطابع في هذه المرحلة عدداً لابأس به من الدواوين الشعرية لمحمد حسن عواد، وحسن عبدالله القرشي، وعبدالله الفيصل، وطاهر زمخشري، ومحمد سعيد المسلم، وسعد البواردي، وصالح الأحمد العثيمين، وجملة من الأعمال القصصية والروائية التي احتفت بالبعد المديني والطبقة المتوسطة، كما في روايتي حامد دمنهوري (1340 - 1385ه/1921 - 1965م) «ثمن التضحية: 1379ه/1959م»، و«مرت الأيام: 1383ه/1963م»، وأعمال أمين سالم رويحي، وعبدالله الجفري «حياة جائعة»، وعبدالله مناع «لمسات»، أو الاتجاه القومي والإيديولوجي كما في قصص عبدالله عبدالجبار«أمي: 1374ه/1954م»، و«العم سحتوت: 1374ه/1954م»، ومسرحيته «الشياطين الخرس: 1374ه/1954م»، وأعمال إبراهيم الناصر القصصية والروائية. وبات أدب تلك المدة مشغوفاً بالقيم الثورية التي لاتخفى على المطالع، والتي تعد بعض اثارة النزعات السياسية والاجتماعية في الوطن العربي كله، والتي كان من دلائل عمقها ورسوخها في الثقافة والمجتمع في المملكة -آنذاك - أن يتنادى الشاعر عبدالله بن إدريس - التلميذ الوفي للدعوة السلفية - إلى أن يدعو، وفي قلب نجد، إلى «التقريب بين الطبقات»، وأن لايجد غضاضة في أن يشيم بصره إلى ماذكره فرويد في التحليل النفسي للأدب، وأن يخرج من نجد التي كانت، في ذلك الأوان، تعيش على أصداء قصائد شاعرها الكلاسيكي الكبير محمد بن عبدالله بن عثيمين - شعر كالذي قاله ناصر أبو حيمد: بم تحلمون؟ ياأيها المتسكعون الجائعون المتعبون؟ أجفانكم فيها ابتهال وعلى شفاهكم سؤال وعلى الجباه الصفر شيء لايقال بم تحلمون؟ ٭٭٭ ياأيها النفر الجياع المدلجون بلاضياء العابرون على السهوب بلامتاع بم تحلمون؟ ٭٭٭ ياأيها الراعي الكئيب المستظل على الكثيب أطفالك الزغب الهزال الهائمون على الرمال بم يحلمون؟ أو قصيدة الشاعر عبدالرحمن المنصور التي تنبئ عن أي أثر أحدثته الثقافة الجديدة في منطقة نجد، التي كان أبناؤها من المثقفين الشبان قد أشاحوا بوجوههم عن الثقافة التقليدية السائدة فيها: العيش والمحراث والفأس الثليم والأرض نزرعها ويحصدها الغريم وكآبة خرساء..تقضمنا على مر السنين لا فرحة لا بهجة غير الكآبة والأنين والأرض نزرعها ويحصدها الغريم ربَّاه: هل نبقى كهذي الساقية أبداً تئن فتضحك الأقدار منها هازئة أبداً تئن فصباحها كمسائها مكلومة تشكو على مر القرون والناس تحسب شجوها الباكي لحون فرمى أبي المحراث وانثالت شجون لاتجزعي فلقد تباركنا الحياة..فتفرحين فتهاملت منها دموع وتلاعبت فيها ظنون ويشب في أعماقها ..لهب حنون رباه فأجعل بكرنا..هذا الجنين عوناً ..على دهر ..تهضَّمنا خؤون وتمر أعوام.. وحملق في القطيع شيء صغير شيء فظيع شيء تضيق به الطريق طفل.. ملامحه.. رضيع