أثار تعليق الوزراء الشيعة من حركتي «حزب الله»، و«أمل» لعضويتهم في حكومة الرئيس السنيورة جدلاً ساخناً ليس في لبنان وحدها، بل حتى داخل اروقة السياسة العربية في دول الجوار. التعليق جاء كاحتجاج لهؤلاء الوزراء على قرار طلب انشاء محكمة دولية للنظر في اغتيال الرئيس الراحل رفيق الحريري. حجة هؤلاء الوزراء في مسوغات التعليق جاءت على لسان مسؤول في «حزب الله»: (ذلك أمر يتجاوز السيادة الوطنية ويطرح الثقة في المؤسسات القضائية اللبنانية). حملة الاتصالات لاصلاح ذات البين اللبناني شملت كافة الوجوه السياسية في لبنان، بل وقادت عمرو موسى أمين الجامعة العربية لزيارة لبنان وسوريا آملاً في العثور على اجواء تهدئة ملائمة، السعوديون ايضاً اقلقهم الامر، فواصلوا هم ايضاً مساعي الوساطة. لم يمر «حزب الله» بأزمة سياسية كمثل هذه الازمة التي يعايشها منذ عام. واذا كان الحدث الأمريكي قد قسم العالم لما قبل 11 سبتمبر وما بعد 11 سبتمبر، فإن الحدث اللبناني قد قسم لبنان الى ما قبل اغتيال الحريري، ولبنان ما بعد اغتيال الحريري. المشكلة الرئيسية التي يعاني منها «حزب الله» هو خسارته لشعبيته الجارفة التي اعقبت انسحاب إسرائيل من الجنوب اللبناني عام 2000، وحينما نقول شعبية فنحن نقصد الاجلال والتقدير الذي حظي به الحزب بعد الجلاء ليس من الطائفة الشيعية وحدها، بل من غالبية الطوائف اللبنانية. فمنذ بداية ازمة التمديد للرئيس لحود والحزب يبتعد قليلاً قليلاً عن صوت الجماهير اللبنانية العامة، او بمعنى آخر فقد الحزب تلك المسحة التآزرية الشعبية التي كانت تميزه، واختفت مفردات الوحدة اللبنانية من خطبه الحماسية. اما مشاركة حركة «أمل» له في الموقف الاخير فيمكن قراءة ذلك في سياق تضامن طائفي في محيط مستقطب طائفياً كما هي الساحة اللبنانية اليوم. ثمة اسباب حقيقية تدفع ب «حزب الله» الى تعليق عضويتها في الحكومة. فالحزب يرزح تحت عبء ثقيل من العلاقات مع الجهاز الامني السوري، وضغوط مباشرة من طهران، ثم ان الحزب فوق ذلك احس بمنافسة ضارية وضعف على المسرح السياسي خصوصاً من الناحية الطائفية، فأولاً هناك تكتل برلماني قوي من تيار «المستقبل» الذي حقق حضوراً عاصفاً في الانتخابات البرلمانية الاخيرة، ثم هناك عودة لرموز الحكم السابق وتقوية لشوكة أطراف كانت ضعيفة ف«التيار الوطني الحر» حظي بعودة زعيمه ميشال عون من منفاه الباريسي، وكذلك حظيت «القوات اللبنانية» بخروج سمير جعجع من السجن، أما وليد جنبلاط فقد أصبح زعيم المعارضة للحكم ولسوريا، ليس هذا فحسب فقد استطاعت المنظمات الطلابية التي بات يعبر عنها بتيار «14 آذار» أن تحقق حضوراً كثيفاً بين الجيل الشاب. كان المراقبون يظنون بأن دوافع «حزب الله» تتعلق بالضغوط السورية الإيرانية عليه فقط، ولكن بات واضحاً الآن أن المسألة أكبر من ذلك وأن التحدي عريض ويمس الحزب في أهم شيء لديه وهو الساحة الشعبية اللبنانية، قبل اغتيال الحريري لم يكن أحد ليرفع صوته عالياً ليجاوز قصر بعبدا إلا «حزب الله» فقد كان الاستثناء في القاعدة السياسية اللبنانية، أما اليوم فالحزب انحسر في محيط الطائفة فقط. أظن أن الأمين العام للحزب الشيخ حسن نصر الله قد صدم بشكل كبير في 14 آذار، فقبلها بعدة أيام (8 آذار) دعى الحزب قرابة 400 ألف غالبيتهم من الطائفة للدفاع عن سوريا متحدياً بأن «سوريا لن تخرج من لبنان»، ولكن نصر الله ذهل حين استطاعت المنظمات الطلابية حشد قرابة المليون من كافة الطوائف في ساحة الشهداء مطالبة بالرحيل الفوري لسوريا. هذا الحدث كان شديد التأثير على نصر الله، فلأول مرة يتم تحديه شعبياً، ويفلح متحدوه في تخطي شعبيته. هل تبدو أزمة التعليق خطيرة لهذا الحد؟.. نعم ولا في نفس الوقت. فالحزب في الحقيقة يمارس تكتيكاً سياسياً تقليدياً، فهو يشعر بالضغوط السورية الإيرانية ولا يريد أن يعكس لهؤلاء خصوصاً تخليه أو ضعفه ولذلك يمارس سياسة الأمر الواقع، هو ينتظر قرارات مجلس الأمن لكي يبني عليها موقفه، أي أن الحزب استفاد من درس القرار 1559 الصادر عن مجلس الأمن، ففي حين حاول نصر الله تحدي الضغوط الدولية، وظن بأن سوريا بإمكانها مواصلة لعبة الممانعة في الخروج حتى دق العظم إلا أن الخروج بالشكل السريع ناقض توقعاته، فلذلك هو اليوم يعلق عضويته حتى لا يضغط مجلس الوزراء الحالي باتجاه المطالبة الآن - وتحت تفويض جزئي من «حزب الله» بوصفه شريكاً في الحكومة - بانشاء محكمة دولية، عوضاً عن ذلك ينحاز وزراء «حزب الله» وكذلك حركة «أمل» - حتى لا ينقسم موقف الطائفة - إلى أن يصدر قرار مجلس الأمن 1644، عندها يكون «حزب الله» في حل من الالتزام لسوريا أو إيران بأي شيء لا سيما وأن القرار بات دولياً، وليس بإمكان الحزب تحديه في الوقت الراهن. الشيء المهم في تكتيك الحزب - وهو الأمر الجديد - هو رغبة نصر الله في إعادة التوازن للقوى السياسية في البلد، مسألة عودة الوزراء الشيعة أمر ليس أمامه معوقات ذاتية، بل ظرفية. الحزب يقّدر من جهة إشراكه في الحكومة الأخيرة، وممتن لموقف بعض القوى التي حاولت تورية مسألة نزع سلاح الحزب الواردة في القرار 1559. لكن الحزب يأمل صياغة ميثاق شراكة وطنية بين الطوائف والفصائل لوضع ما بعد الوجود السوري، أي أنه يرغب في تقليل خسائر الحزب الناتجة عن تدويل هذه القضية، ثم الحد من الوقت الزمني اللازم للاستقرار في المرحلة الجديدة. الزعيم الدرزي كمال جنبلاط فهم الرسالة ولذلك صرح قائلاً: (أنا في حماية نصرالله)، بل إن الوزير غازي العريضي - وهو من كتلة جنبلاط - سعى لإضفاء هذا المنحى بعداً أكبر عندما صرح: (حمينا حزب الله وعليه أن يساعدنا). إذا أخذنا تقرير ميليس الثاني المقدم أمام مجلس الأمن، وكذلك القرار الصادر بهذا الشأن (1644) فيمكننا أن نلمس علامات تغير واضحة على مسرح الأحداث، فخلافاً للتوقعات أراد مجلس الأمن تخفيف حدة القضية، فهو وإن أعطى اللجنة الدولية دعماً قوياً، وانتقد سوريا بشأن تعاونها، إلا أن القرار 1644 قد أريد له أن يعمل على تهدئة الموقف داخل لبنان، وليس إشعاله، فالقرار لم يتضمن حماساً بشأن محكمة دولية للنظر في قضية الاغتيال، كما ورفض توسيع دائرة التحقيقات، والأهم من ذلك هو إغفاله لكثير من ملابسات القرارات السابقة على مستوى الداخل اللبناني. المفارقة بموضوع هذا القرار هو أن جميع الأطراف اعتبرته معبراً عن توقعاتها ولساناً لطموحاتها، فالسوريون كانوا يتوقعون أن يكون أكثر تشدداً، أما «حزب الله» فقد أبدى ارتياحاً كبيراً لمعطيات القرار وحيثياته. حتى لو تجاوز الحزب هذه الأزمة بفضل هذه الوساطات المتعددة، فإن هنالك مشكلات أخرى وملفات عالقة لم يحسمها الحزب مع بقية شركائه اللبنانيين، لعل موضوع سلاح الحزب هو الأكثر طرحاً ولكن لا يظن كثير من المتابعين بأن هذا أمر ذو أولوية في الوقت الراهن لأجل دواعي التهدئة ولم الشّمل. بيد أن هنالك مسائل أخرى تشغل المتابعين لشؤون الحزب، فهو ورغم مشاركته في العملية الديمقراطية إلا أنه يفتقر إلى الشفافية السياسية المطلوبة، فحتى الآن تعتبر الطريقة التي يدار بها الحزب سرية، إذ لا أصداء عن انتخابات أو شورى داخله، ويظل حسن نصرالله أمين الحزب لخمس فترات تجديد حتى الآن، دون أن يظهر في الحزب قيادات حزبية بديلة، ثم إن الحزب يتصرف في منطقة وجوده بحرية، وأحياناً بنشاطات متداخلة مع السلطة الأمنية اللبنانية نفسها، مما يطرح مسألة: مدى خضوع «حزب الله» للقانون والدولة اللبنانية التي يخضع لها كل اللبنانيون؟ .. في يونيو 2000 أصدرت منظمة مراقبة حقوق الإنسان (HRW) - وهي منظمة تحظى باحترام ومصداقية عاليين - بياناً يدين بعض سياسات «حزب الله» المخالفة للقانون، وحقوق الإنسان، مثل عمليات اختطاف، وتهديد متجاوزة للسلطات والقانون. بل إن الحزب قد وقع في أخطاء قد تهدد سمعته كحزب نضالي «طهوري»، فقد كشفت معلومات استخبارية أمريكية أن «حزب الله» شارك في تسهيل عمليات مهربي مخدرات ينشطون في الجنوب اللبناني عبر الحدود إلى إسرائيل. طبعاً، هدف الحزب لم يكن المتاجرة بالمخدرات، ولكن تأسيس عدد من حلقات التجسس بين المجتمعات العربية في شمال إسرائيل. رغم أن هذه الخطة فشلت بعد انكشاف بعض أطرافها في الجيش الإسرائيلي نفسه إلا أن تصور مدى التورط الذي بدأ الحزب يصل إليه قد يعرض صورته للخطر. خلافاً للتوقعات فإن «حزب الله» أمام فرص متعددة أحلاها مرّ. إذ حظي الحزب لأول مرة في تاريخه بمغازلة أمريكية لم يسبق لها مثيل. فقد صرح الرئيس الأمريكي في ابريل الماضي بأن على «حزب الله» العمل على عزل وصمة الإرهاب عنه ونزع سلاحه والانخراط في الحياة السياسية في لبنان. قال الرئيس بوش: «ننظر للحزب كتنظيم إرهابي، وآمل أن يثبت الحزب عكس ذلك بإلقائه السلاح وعدم تهديد السلام». ورغم أن الولاياتالمتحدة ظلت تتهم «حزب الله» بمسؤولية التفجير الذي قتل فيه ما يزيد على 200 جندي أمريكي في بيروت عام 1983، إلا أن تصريح الرئيس بوش يعتبر بمثابة مناورة أمريكية عالية المستوى. طبعاً، رد الشيخ حسن نصرالله بلهجة قاسية ضد هذه الملاطفة الأمريكية، ويبدو أن تصريح بوش قد أغضب الإسرائيليين كذلك إذ اعتبروه عفو أمريكي غير مشروط. في الحقيقة لا يستبعد أن يكون الحزب قد بدأ التفكير بجدية في هذا الشأن، وهذا أمر غير مستحيل فالحزب يدرك بأن أحزاباً إسلامية شيعية هي على رأس السلطة في العراق اليوم وبمباركة أمريكية، وبوسع الحزب أن ينسخ نموذج السياسة الإيرانية البراجماتي بدل نموذج «الحرس الثوري». ثم إن المطلوب ليس عقد علاقات مباشرة بأمريكا، بل يمكن أن يمر ذلك بأطوار ومراحل أولها إسقاطه من قائمة الإرهاب التي تربع عليها لأمد طويل، ثم علاقات ربما مباشرة بالاتحاد الأوروبي، قد يظن البعض بأن هذا أمر مستحيل، ولكن ربما كان الشيخ حسن نصرالله يفكر فيه بجدية - وإن كان ذلك بصوت خفيض في الخلوات. في السابق كان الرئيس الراحل رفيق الحريري كلما اشتد الخلاف بين «حزب الله» وبقية الطوائف والقوى السياسية، يعمد إلى الاتصال على رقم هاتف نقّال في الضاحية الجنوبية. كان يقول جملة مختصرة واحدة هي عبارة عن سؤال «هل هناك فاكهة في البلد؟»، كان الطرف الآخر على الخط يقفل السماعة، ثم ما يلبث أن يلتقي الحريري بعد ساعات ب«حسن نصرالله» في مكان سري، يحتفي الرجلان ببعضهما البعض، ثم يقول نصرالله: قبل أن نبدأ فلتأكل شيئاً من فاكهة الجنوب أولاً.. هكذا كانت تحل الخلافات حينما كان الحريري هو جسر لبنان الذي يوصل إلى «حزب الله». أما اليوم فإن نصرالله يفتقد لوجود شخصية سياسية بارزة بإمكانه أن يعقد الصفقات معها، فعوضاً عن ذلك أمامه جهات متعددة ومشتتة وهو لذلك قلق، إذ لا أحد فعلاً يرغب في الأكل من فاكهته... ربما لم يحن الوقت بعد لتنضج كروم العنب. [email protected]