إن فن السياسة فن معقد وضبابي، ولا يخضع لمعايير منطقية، وإنما يقوم على تكهنات، وتوجسات، وربما حسابات سريعة التغير، وسريعة التبدل، وفقاً لمقتضيات المصلحة والمنفعة.. السياسة هي فن الحيلة والتلاعب بالشؤون الداخلية والخارجية للدول، والسياسة فن واسع، ومعقد، ومراوغ، ولا أحد يستطيع أن يضبطه أو يقعّده، أي يجعل له قاعدة واضحة يمكن أن يسير عليها المرء فيصبح سياسياً.. ومهما يكن من أمر فهي فن من الفنون القائمة على المكر، والخديعة، والدهاء، واستغلال الموقف في الوقت المناسب، وحسم الأمر في الزمن المطلوب، على أن السياسة تعني في الوقت نفسه ريادة القوم أو الأمة، وزعامتهم، ورئاستهم.. فسائسهم هو زعيمهم، ورئيسهم، والمتولي أمورهم.. ومن ثم فإن الأمة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً، ومتأثرة تأثراً كبيراً في شؤونها بقوة سلطته وسلطاته ونفوذه.. لا كما قال الشاعر دعبل الخزاعي حينما ضعف دور الخليفة العباسي وصار الأتراك هم أهل الحل والربط: الحمد لله لا صبر ولا جلد ولا عزاء إذا أهل البَلا رقدوا خليفة مات لم يحزن له أحد وآخر قام لم يفرح به أحدُ لأن هذا تهميش لدور الزعامة وسلطة الدولة، وإسقاط لهيبتها.. والدولة لا يمكن أن تكون ذات نفوذ إذا لم تكن هناك سلطة حازمة تحمي شخصيتها وتفرض هيبتها وتجعلها مرهوبة الجانب.. كما أن السياسة تعني الترويض، والتهذيب، واخضاع الجموح، والنافر، والطاغي لسلوك معين يفرضه عليه السائس. فسائس الخيل هو مروضها، وإذا كان سائساً ماهراً، فإن الفرس أو الحصان سيتمتع بأخلاق وسلوك تجعله مرن التعامل، سهل الانقياد.. أما إذا كان السائس قليل خبرة، أو قليل حكمة، ولا يعرف أصناف الخيل، وأجناسها وأعراقها، وطبائعها، فإنه سوف يحولها إلى مخلوقات شرسة، فظة، غليظة، خطيرة، تجمح براكبها وربما رمت به نحو المخاطر والمهالك.. وسيجعلها فوق تمردها تعاني من الإجهاد، ومن الارتباك وإضاعة الطريق. ولقد فطن الشاعر محمد الفيتوري إلى سائس خيول عنيف فخاطبه مرة بقوله: ايها السائس رفقاً بالخيول المُتعبة.. قف...!! فقد أدمى حديدُ السّرج لحم الرقبة قف..!! فإن الدرب في ناظرة الخيل اشتبه قف..!! ولست أدري لماذا جنحت إلى سياسة الخيول وكنت أتحدث عن سياسة العقول، ولكن المعنى اللغوي أحياناً يجر القلم إلى تشعبات ربما يكون من المفيد معرفتها والوقوف عليها. أعول للقول إن فن السياسة فن معقد وضبابي، ولا يخضع لمعايير منطقية، وإنما يقوم على تكهنات، وتوجسات، وربما حسابات سريعة التغير، وسريعة التبدل، وفقاً لمقتضيات المصلحة والمنفعة.. ومن ثم فإن السياسة مجردة تماماً عن الأخلاق.. وأرجو ألا يغضب مني علماء السياسة بكل أنواعها، وألوانها. فإنني وإن كنت لست عالماً سياسياً، إلا أنني مراقب لأوضاع السياسة منذ نعومة اظفاري، وتعلمت كما تعلم غيري الكثير.. الكثير من خداعها، ومناوراتها، وكذبها.. وبعدها عن الأخلاق ولعلهم يتذكرون حكاية «أفلاطون» في جمهوريته المثالية حينما حاول تطبيق الأخلاق على السياسة ففشل فشلاً ذريعاً بل ان الحاكم زج به في السجن. وبمناسبة الكذب السياسي.. يروى عن الزعيم الانجليزي «تشرشل» أنه رأى شاهداً على أحد القبور مكتوباً عليه: هذا قبر السياسي المحنك، والصادق الأمين..!! فقال: «لم أرَ قبل هذا رجلين دفنا في قبر واحد»..!! وأظن ان منطقتنا منطقة الشرق الأوسط - بحكم وجود إسرائيل والتدخلات الغربية - هي أكبر اكاديمية سياسية يتعلم فيها الناس هذا المكر، والخداع على الطبيعة، ويرونه رأى العين وليس في بطون الكتب، ولا من خلال نظريات المنظّرين. ولعل وجبات الكذب السريع، والخداع السريع التي تمارسها أمريكا في المنطقة أكبر برهان على صحة هذا الرأي. الشيء الغريب وأرجو ألا يغضب الأكاديميون السياسيون أيضاً، أنني لم أر في غالبية دول العالم زعيماً تسنم موقعه بناء على شهاداته، وخبراته الاكاديمية السياسية.. بل ولا حتى خبراته الوراثية كالذين تربوا وولدوا في بيوت السياسة كما في الحكومات الملكية. ففي عالمنا العربي معظم الرؤساء كانوا يأتون إلى مواقعهم على ظهور دبابات، ومجنزرات، روّضوها وسيّسوها للقتل والذبح.. فكان أول شيء يعملونه هو نصب المشانق، وافتتاح المزيد من المعتقلات. أما في العالم الغربي، فأغلبية الزعماء إما أن يكونوا قادة حروب، أو رعاة بقر، أو ممثلين، أو تجار قمح، أو مديري شركات نفط.. الخ.. وهؤلاء تصنعهم ظروف، أو بالأصح يُصنعون، ويدربون، ويهيأون لاحتلال مناصبهم وفقاً لذرائع ومصالح رسمت لهم كي ينفذوها. ومن سوء حظنا أن غالبية هذه المصالح تقع في منطقتنا الضعيفة المنكودة والمنكوبة.