من يقرأ سير العباقرة «أيام زمان» يحزن لحالهم ويأسف لبؤسهم. فجهابذة العلماء وفطاحلة المفكرين كانوا يعيشون في فقر نسبي ويعتمدون على خدمة اللئام ورضى الحكام. فالعلم في ذلك الوقت كان ترفاً فكرياً لا يمكن ترجمته إلى راتب شهري أو إنتاج صناعي - أو حتى مطبوعات تُباع وتُشترى -. وكان العرب يسمون الاختراعات «علم الحيل» معبرين - من خلال هذه التسمية الساذجة - عن نظرتهم للتراكيب التقنية كألاعيب عجيبة لا يمكن تطبيقها أو الاستفادة منها. ولم يكن الأدباء بأحسن حالاً من العلماء في تلك الأيام، فمؤلفات ضخمة كالأغاني والعقد الفريد والبخلاء كان يقضي الأدباء جل أعمارهم في كتاباتها ثم لا ينسخ منها سوى نسخ محدودة لا تجلب شيئاً من الرزق - وفي المقابل يمكن اليوم لأي رواية ساقطة أن تكسب الملايين بفضل شبكات التوزيع وتقدم وسائل الدعاية! .. أما في عصرنا الحالي فقد أمكن للعلماء تحقيق أحلامهم العتيقة في الثراء بفضل الروح الصناعية التي ميزت هذا العصر والقدرة على ترجمة الأفكار إلى منتجات تُوزع بالملايين. وهذه المنتجات تجلب أرباحاً طائلة لمخترعيها كون كل مخترع أو مكتشف يملك نسبة مئوية من الأرباح عن كل وحدة منتجة تستمر لمدة 71 عاماً.. أضف لهذا تنشئ معظم الشركات الكبرى معاملها الخاصة وتحاول استقطاب العلماء برواتب مغرية لم يكن يحلم بمثلها البيروني ودافنشي وجاليليو. كما أن هناك جامعات (ليست في عالمنا العربي بالطبع) تحصل على نسبة كبيرة من ميزانياتها من خلال (بيع) حقوق أبحاثها واكتشافاتها العلمية أو من خلال تعاونها مع الشركات الصناعية، فمجرد امتلاك الفكرة وحق استغلالها يشكل صناعة قائمة بذاتها كثيراً ما تتفوق على السلع الحقيقية المصنعة. فقد يتصور البعض أن أفضل صادرات اليابان هي الإلكترونيات أو أن أفضل صادرات أمريكا هي الطائرات. ولكن الحقيقة هي أن أفضل صادرات الدول المتقدمة هي «الأفكار» أو ما يسمى في علم الاقتصاد «رأس المال الذكي». وهناك أمثلة كثيرة لمخترعين وعلماء حققوا ثراءهم من خلال أفكار خلاقة تحولت لأعمال صناعية مزدهرة، فمهندس البصريات الأمريكي بولاريد اخترع الكاميرا الفورية (المعروفة باسمه) لأن ابنته الصغرى أصرت على رؤية صورتها - التي التقطها بكاميرا عادية - في التو واللحظة. وبعد جهد وإصرار اخترع «بولاريد ادوين لاند» الكاميرا الفورية وخلق لنفسه سوقاً جديدة تماماً - وحقق بالتالي ثروة طائلة -.. ليس هذا فحسب بل سبّب اختراعه هذا ضربة موجعة لعملاق التصوير شركة كوداك التي لم تجد مخرجاً غير تقليده بكاميرا مشابهة.. غير أن بولاريد رفع قضية على كوداك انتهت باتفاق ودي استلم من خلاله 999 مليون دولار - أعطت دفعة قوية لشركته الجديدة!. أيضاً من المعروف أن بيل جيتس (أغنى رجل في العالم) كان حتى عام 4791 طالباً في هارفارد حين صمم نظام الكمبيوتر المعروف «دوس» وباعه إلى شركة آي. بي. ام. وفي عام 6891 أسس شركته المعروفة مايكروسوفت التي تحولت بسرعة إلى ثالث أغنى شركة في العالم وتحول معها إلى أغنى رجل في التاريخ. هذه الأسماء خير دليل على الفرق المادي الشاسع بين علماء زمان وعلماء هذه الأيام.. ولكن - كما قلنا - ليس في عالمنا العربي!