تذكرنا الميزانية الجديدة بأيام الطفرة! ميزانية بلا عجز مالي.. ميزانية تحمل في باب المشاريع (طيب الذكر!) بنوداً كثيرة كدنا أن ننساها في ميزانيات سابقة عديدة طالما استأثر بها ما يسمى ب "الباب الأول" وهو الباب الذي تُرصد فيه رواتب موظفي الدولة وله الأولوية على ما عداه.. هذه الميزانية التي نرجو أن تكون فاتحة خير لحقبة جديدة من الرخاء والنماء لبلادنا سبق الإعلان عن تفاصيلها تفاصيل أخرى تتعلق بالميزانية السابقة، ميزانية عام 2004، التي كان من المتوقع أن يكون بها عجز مالي يصل إلى ثلاثين مليار ريال وذلك عندما أعلن عنها لأول مرة قبل حوالي عام من الآن.. فقد كان المتوقع أن تكون إيرادات ميزانية عام 2004مائتي مليار ريال وأن تكون مصروفاتها مائتين وثلاثين مليار ريال.. إلا أن الارتفاع الشديد في أسعار النفط قلب التوقعات فزادت الإيرادات الى 292مليار ريال وزادت المصروفات الى 295مليار ريال وتحول العجز إلى فائض.. وكان الفائض سخياً وصل الى 98مليار ريال.. فالحمد لله رب العالمين! أما الميزانية الجديدة المقدرة لعام 2005فهي ميزانية تتساوى فيها الإيرادات مع المصروفات عند 280مليار ريال. وقد تم تقدير هذه الميزانية وفق سيناريو متحفظ، وهذا أفضل.. فإن حافظت أسعار البترول على مستواها أو ارتفعت عن ذلك فسوف تحظى بميزانية أكبر من الميزانية المقدرة، وإن ارتبكت أسعار النفط وهبطت عما هي عليه الآن نكون قد احتطنا لأنفسنا.. نحن نعلم أن الميزانية هي مجرد أرقام تقديرية لفترة قادمة لا يعلم سوى الله ماذا ستحمل لنا.. وقد درجت العادة في بلادنا أن نفرح بصدور الميزانية لأننا نتفاءل أن تحمل لنا بشارات جديدة عن دخل الدولة وعن الاقتصاد الوطني في السنة القادمة.. لكن الميزانية الفعلية، لا التقديرية، معرضة للتغير.. وبسبب ذلك و جدنا أن العجز المالي الذي كنا نتوقعه في الميزانية السابقة قد تحول إلى فائض، وبدلاً من أن يتراكم جبل الدين العام بزيادة قدرها ثلاثون مليار ريال تناقص بواقع 98مليار ريال لأن الميزانية الفعلية حققت كل هذا الفائض المبارك.. وقد انخفض الدين العام، بسبب ذلك، من 660مليار ريال الى 614مليار ريال.. ورغم أن الدين العام مازال كبيراً، فإن انخفاضه بحوالي مائة مليار دولار في عام واحد هو إنجاز كبير للغاية.. وإذا ما قدّر لهذا الدين أن يهبط بنفس المعدل فسوف يختفي بالكامل خلال سنوات قليلة ونتخلص من هذا الكابوس الذي يمثل إعاقة لاقتصادنا الوطني.. إذن، فأول البشارات التي حملها بيان الميزانية هو تخفيض الدين العام.. وهو مطلب يردده الاقتصاديون منذ أن بدأ هذا الدين يتضخم ويضغط على الميزانية العامة للدولة.. أما البشارة الأخرى فهي أننا سننعم، ان شاء الله، خلال السنة القادمة بميزانية متوازنة لا تعاني من العجز.. أي أن الميزانية القادمة لن تضيف مزيداً من الأعباء إلى الدين العام لأن العجز حين يحدث يُغطى بالاقتراض مما يزيد من الدين العام.. وهو الأمر الذي لا يتوقعه معدو الميزانية الجديدة. إن السمة الأساسية للميزانية العامة الجديدة هي اهتمامها برأس المال البشري ورأس المال المادي. ومعروف أن المقصود برأس المال البشري ما ينفق على تطوير الإنسان ورعايته والاهتمام به.. أما رأس المال المادي فيتمثل بالبنية الأساسية لمشروعات التنمية كالطرق والتجهيزات المختلفة.. وتأتي البنود المخصصة للإنفاق على التعليم في طليعة بنود رأس المال البشري في الميزانية حيث تم تخصيص ربع الميزانية للصرف على التعليم العام والتعليم العالي والتدريب التقني والفني والمهني.. ومن المتوقع أن يؤدي ذلك إلى فتح آفاق جديدة أمام الإنسان السعودي الذي ثبتت حاجته للمزيد من المؤسسات التعليمية والتدريبية بعد أن ضاقت الطاقة الاستيعابية لهذه المؤسسات للوفاء بمتطلبات النمو السكاني الكبير في بلادنا.. ولاشك بأن هذا التوسع الإنفاقي في مجال التعليم والتدريب هو أحد المتطلبات الأساسية للمرحلة الحالية التي تسعى خلالها الدولة لرفع كفاءة المواطن وزيادة إنتاجيته ومهاراته من أجل سعودة سوق العمل وإحلال المواطنين السعوديين محل العمالة الوافدة. يضاف الى ذلك ما ورد في الميزانية من مخصصات للإنفاق على الرعاية الصحية والشؤون الاجتماعية، فهي بمثابة استثمار في رأس المال البشري، وعلى سبيل المثال فقد ارتفعت مخصصات الصحة من 24.3مليار ريال الى 27.1مليار ريال. أما جانب الاستثمار في رأس المال المادي فقد تمثل في ما ورد من مشروعات في قطاع البلديات وتقنية المعلومات وشبكات الطرق والتجهيزات المتنوعة، فهذه المشاريع سوف تسهم، من جديد، في تعزيز البنية الأساسية للاقتصاد السعودي، وتفتح المجال واسعاً أمام القطاع الخاص للانتعاش مما سيفتح فرصاً وظيفية جديدة للمواطنين.. هذا التوسع في الانفاق الاستثماري هو أمر ضروري لتحريك الاقتصاد السعودي في المرحلة الحالية. فالدولة رغم أهمية القطاع الخاص، تظل هي المحرك الرئيسي للاقتصاد. وعندما تعزز الدولة قنوات الإنفاق الرأسمالي، فهي توفر البيئة المناسبة لكي ينطلق القطاع الخاص وينشط بفعل التراكم الرأسمالي المعزز للنمو الاقتصادي. ومن المعلوم أننا نراهن على القطاع الخاص لتوفير الفرص الوظيفية للمواطنين واستقطاب الباحثين عن العمل. إن المأمول هو أن تشيع هذه الميزانية الجديدة المزيد من روح التفاؤل في الاقتصاد السعودي خلال المرحلة الحالية، وأن يؤدي ذلك الى مزيد من الاستثمارات من قبل القطاع الخاص المحلي والأجنبي.. كما أن المأمول هو أن تتردد الأصداء الإيجابية لهذه الميزانية في سوق الأسهم السعودية فيتحرك السوق وينشط ليس بفعل المضاربات العشوائية وإنما كنتيجة لما تسجله الشركات من أرباح ونجاحات اتاحتها البيئة الجديدة لاقتصادنا المتفائل.