كانت تحدثني من منطلق أن الحياة لا تحمل سوى لونين، أبيض، وأسود، مع الإصرار على الأسود. وان ملامح الزمن ليست سوى نص تقليدي لا يعدو أن يتجمد كالشمع الذي يرفض الذوبان. كانت جافة وليست عنيفة. تصر على تشكيل الأشياء، والتدقيق في الصور، والاستكانة على الواقع الذي لا يمكن أن نغيره، أو نبدّله، أو نتصدى له، أو نتعامل مع تفاصيله بطريقة تعكس وجه المستحيل. شعرتُ أنني أتحدث معها بأسلوب لا يحتمل التأجيل في مفرداته وأدخل إليها دون استئذان. شعرتْ أنني أمطرها بهدوء وبرغبة إمكانية تمازج الألوان كانت تخاف الواقع رغم أنها لم تضع قدميها جيداً عليه. وتخاف القادم رغم عدم اتضاح ملامحه. وتخاف التجربة هروباً من الوقوع في الخطأ. تذكرت وأنا أحدثها أن هناك من قال (إذا لم تعرف الخطأ، لا يمكن أن تصححه). واننا قد نبدد الوقت حالمين دون أن نقترب حتى من مصافحة الرغبة في تحقيق هذا الحلم. كم من أناس تمنينا أن نكون مثلهم؟ كم من إنسان حدّقنا فيه طويلاً أن نملك القدرة على مخاطبته؟ كم من الفرص التي أتيحت لنا ولم نستطع الإمساك بها؟ كم ظلاً تقدمنا منه وأبطأنا السير ثم وجدناه قد غادر؟ كم هي الأحلام كثيرة ولكن كم هي بعيدة عن تملكنا للإرادة الحقيقية التي تدفع للنزول إلى ملامسة الواقع؟ نختار اللونين فقط وقد نظل حالمين بالأبيض دون أن نجرب تمازج الألوان. هذا التمازج لا يمكن أن يتم ونحن متكئون على تلك اللحظات السعيدة التي لا تخلو من هروب من التفكير، والمعاناة، وايمان مطلق بأن من يفكر في ذلك لابد أن يكون على خطأ. وأن من ينأى بنفسه من المؤكد أنه الوحيد الذي يتملكه الصواب كثيراً ما تضيق معنا زاوية الرؤية حتى تغيب الملامح والألوان. والسبب أننا نهرب من المعاناة والتجربة ونصدر الأحكام المسبقة قبل خوضها يبدأ الزمن وينتهي دون أن نصل إلى شيء باعتقاد خاطئ أن من أمن سلم. يقول بودلير الشاعر الفرنسي الشهير: «شكراً للمعاناة لأنها تعلم الإنسان». المعاناة التي تجعلنا نصدر الأحكام من منطلق معايشة حقيقية، وليست ورقية فهناك نتيجة فعلية لمن جرب، ولمن حلم، ولمن خاف وابتعد. لا لون واحداً للحياة. تستطيع أن تتعامل بالرمادي عندما يصدمك الأبيض ويتلوث، ويتمرد الأسود على لونه، بإمكانك مزج الألوان، وتهميش بعضها، وحمل مفتاح الأمل الجديد في يدك. بإمكانك أن تبحر في الحياة دون أن تتخلى عن مبادئك وقيمك من خلال التعامل بمرونة مع كثير من الأشياء في العمل، وادارة العلاقات الإنسانية، والحكم على كثير من الأمور ببعض الموضوعية. تبحر، وتبحر بعيداً عن رغبة البعض في الوقوع أسرى للألوان الصريحة والعبارات الواحدة، والمقننة والتي تجعل الحياة أحياناً أسخن من خط الاستواء في عز الظهيرة