يحرضني الغياب بمسببات لا أمتلك حق مقاومتها، على معاودة الحضور، وتحرير نفسي من تسلط التغييب. سلطة تغييب يكون الزمن فارسها. وسلطة تغييب تكون ملامح الكآبة وجهها. واحتراق الأعصاب اليومي حالة من حالاتها المتكررة. لا أمتلك امتيازات تاريخية تخرجني عن دائرة السائد والمألوف ولا أستطيع كسر حلقة من حلقات الدائرة التي تنغلق دون أن نعرف لماذا انغلقت؟ ومتى ستفتح؟ ولست قادرة على استرداد الوعي عندما يداهمني غيابه. ولا أجزم أن هناك من يحاصرني ويصر على قفل كل المنافذ التي من الممكن أن أتنفس من خلالها. هو غياب وليس تغييباً فالغياب قسري، والتغييب أيضاً قسري ولكنه بفعل فاعل. إذن هو غياب، وتغييب. لأن الغياب أحياناً ورغم تلقائيته نظل لا نستطيع حياله فعل أي شيء. أغيب، بقوة الحضور.. وتتمازج ألوان الحلم مع الغياب ويتضح المعيار الحقيقي كما أتصوره مرئياً ومسموعاً. تتفكك حروفه الأبجدية، وكأنها موانئ غادرت أماكنها لترحل بحثاً عن استنبات أرض جديدة. أغيب وأعاود الحضور مأسوره بفعل الكتابة التي هي بالنسبة لي التاريخ يعرضه زمني، والمساحة التي يستهلكها عمري. عندما نغيب عن الكتابة قسراً تبدو الأشياء ملامح باهتة تستحق البكاء وتبدو ملامح الحياة مكشوفة تبحث عن غطائها. روعة الكتابة أنها أحاسيس غير قابلة للجدل أو البحث عن مواصفات خاصة بها. هي فرصة سانحة ومهيأة للتفتيش في الداخل. للسماح للطوفان بأن يمتد والحياة بأن تفرض حضورها والأسئلة تتوالى دون الخوف من أن هناك من يستطيع أن يتصدى لها. نكتب أحياناً لنبدو كالمجانين الذين يستحقون العلاج الفوري نكتب بحثاً عن لغة جديدة لا تشبه غيرها. نكتب لنستمتع بهذا الحب الذي لا ينتهي. هذا الحب، الذي نجتاز معه دورة الحب بالعشق والغرام، والهيام، ثم التلاقي الذي يتحول إلى علاقة أبدية بين الكاتب وما يكتبه. نكتب لنستعيد نبض قلوب أدمنت سرعة إيقاعها أفتح الحياة عندما أكتب لنفسي، وأسعد عندما أصل لغيري دون استئذان أو لحظة لا تحتمل التأجيل. نحن نشعر بالحب عندما نكتب تغرم المفردات ويتشكل النص بلغة وإن بدت نرجسية أحياناً إلا أنها تعتبر حدثاً حضارياً مثيراً. أتنفس وأنا أستجوب المفردات، وأدخل في تفاصيل حروفها وأمطرها بالرغبة في استكمال ما أكتب. هل أحلم بالتغيير؟ هل أخطئ وأنا أمارس فعل الكتابة بإحساس العاشقين، هل لابد أن نسمي الأشياء بأسمائها؟ هل محرم علينا أن نهرب من متاهات الحياة المريرة، التي تتنامى صعوباتها كل يوم؟ علينا أن نكتب ونكسر حاجز الإيقاع البارد والقاتل.