القدر السيئ لا يجوز تمنيه ولا الفرح به ولو كان يظن من ورائه خير محقق، فضلاً عن ان يكون خيره محتملاً، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تتمنوا لقاء العدو...) الحديث، لكن المؤمن مع أقدار الله المؤلمة له حالتان؛ حالة الصبر والتسليم والرضى، والحالة الثانية النظر في أوجه الخير الكامنة فيها لتسلية نفسه، ودفع اليأس والقنوط عنها، والنظر في حكم الله البالغة في قضائه وقدره، ليفتح بذلك لنفسه باباً للأمل الذي يبعثها على العطاء والعمل والبذل، واستئناف الحياة بجد وعزيمة ونظرة تفاؤل مشرقة، فالله سبحانه وتعالى لا يقدر شراً محضاً. وقد كرر الله عز وجل في كتابه العزيز التذكير بهذه القاعدة العظيمة في آيات كثيرة من مثل قوله سبحانه: {إن الذين جاءوا بالأفك عصبة منكم لا تحسبوه شراً لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم} (النور: 11)، وقوله سبحانه: (كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون) (البقرة: 216). وفي هذه النوازل التي توالت على بلاد الحرمين الشريفين في السنتين الأخيرتين، من اعتداء فئة منحرفة عن جادة الطريق المستقيم، على مؤسسات الدولة، واستباحة لما حرم الله من قتل الأنفس المعصومة بغير حق، بل بالتأويلات الباطلة، والتقول على الله وعلى رسوله وعلى علماء المسلمين وأئمتهم بغير حق ولا دليل ولا برهان، في هذه المصائب من أوجه الخير ما يمكن الوقوف امامه تسلية للنفوس المؤمنة الصابرة، وتذكيراً بشيء من أوجه الحكمة الربانية في قضائه وقدره، لا سيما ما ظهر بعد تلك التخبطات الزائغة، والاعترافات التي أدلى بها اثنان ممن انتسبوا لهذه الفئة، تظهر بكل جلاء مدى الشذوذ الفكري، والزيغ الذي أوصلهم إليه أهواؤهم الطائشة، وجهلهم الفاضح بأبسط مفاهيم الشريعة وقيم الإسلام المشرقة. فمن ذلك ان الله سبحانه فضح بهذه الاحداث منهج اهل الغلو في غلوهم، ومفارقتهم جماعة المسلمين في بلد الإسلام، ولاة أمر وعلماء وأهل وعشيرة، وبين فساد مسلكهم، وأن الفتنة والغلو تتجارى بصاحبها كما يتجارى داء الكلب بصاحبه، حتى يعم بدنه ويقوده خطوة خطوة الى حتفه. لقد استطاعوا ان يخدعوا بعض السذج من قليلي الخبرة، وضعيفي العلم فترة من الزمن حينما برروا فسادهم بأنه موجه للكفار ممن آذى المسلمين بزعمهم، وحاربهم هنا وهناك، ورموا بذلك مبادئ الإسلام في العهد والأمان، وأنه في حال تعدد دول المسلمين، أو ولاياتهم لا يجعل مبدأ النصرة فوق مبدأ العهد بينهم وبين الكفار، كما قال سبحانه: (إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير) (الأنفال: 72)، قال ابن كثير رحمه الله بأن آخر الآية في الأعراب من المسلمين الذين لم يدخلوا في ولاية المسلمين ولم يجاهدوا معهم، ثم قال: (وإن استنصركم هؤلاء الأعراب الذين لم يهاجروا في قتال ديني على عدو لهم فانصروهم، فإنه واجب عليكم نصرهم، لأنهم إخوانكم في الدين، إلا أن يستنصروكم على قوم من الكفار بينكم وبينهم ميثاق، أي مهادنة الى مدة فلا تخفروا ذمتكم ولا تنقضوا أيمانكم مع الذين عاهدتم، وهذا مروي عن ابن عباس). ولما تعدى أذاهم في أعمالهم الخبيثة تلك الى بعض المسلمين ممن كان في تلك الأماكن تعللوا بعلة أخبث من فعلتهم بأنهم لم يقصدوهم، وإنما قتلوا بالتبع، وهو من باب التترس، وإلا فهم لا يقصدون المسلمين ابتداء!! كما حصل في تفجير الحمراء من قبل، ثم كرروه في تفجير المحيا، وعميت بصائرهم عن قوله سبحانه مبرراً لنبيه صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضي الله عنهم أمره لهم بالكف عن قتال المشركين في مكة يوم الحديبة أن من أسباب ذلك رجالاً مؤمنين ونساء مؤمنات من أهل مكة آمنوا ولم يعلم بهم الرسول صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة، خشية ان يصيبهم منهم في القتال أذى لاختلاطهم بالمشركين، مع توفر مبررات قتال المشركين وحربهم، يقول سبحانه: (هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفاً ان يبلغ محله ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم ان تطأوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذاباً أليماً) «الفتح: 25».. ثم جاء تفجير مبنى المرور وما تبعه من اعتداءات متكررة على رجال الأمن وممتلكات المواطنين الذين هم مسلمون مثلهم، ليكشف حقيقة الفساد الفكري، والانحراف الذي تنطوي عليه تلك النفوس الآثمة الظالمة، التي تقصدت أذى المسلمين، والوقيعة والغدر بهم، وأظهرت بما لا يدع مجالاً لمرتاب ولا متأول أن الانحراف لا يبدأ دفعة واحدة، وإنما يتجارى بصاحبه، ويتمادى به دركة دركة حتى يسقط في حضيضه، ويغرق في ظلماته، وأن الحق أبلج تبصره العيون التي تستضيء بنور الله. لقد تكشفت حقيقة ذلك الانحراف الفكري، وما عاد محتملاً لأي تأويل، ولا محمل من محامل إحسان الظن ولا دفع الريبة ولا البحث عن المعاذير، وهذه حكمة عظيمة من الحكم التي انطوى عليها ذلك الحدث الآثم، قد يدفع الله بها سوءاً أكبر وأعظم، ويزيل بها الغشاوة عن كثير ممن استجرهم الشيطان في هذا الطريق المظلم، أو اغتروا بما يتذرع به هؤلاء من لي لأعناق النصوص، وقول على الله عز وجل وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى أهل العلم بغير هدى ولا علم، فيؤوبوا إلى رشدهم، ويرجعوا الى جادة الصواب، ويوفروا على أنفسهم وعلى أمتهم طاقات هي أحوج ما تكون إليها في البناء منها في الهدم والتخريب والفساد، فإن الأقدار تعلم وتربي وتؤدب. ومما يتبع ذلك ما تحقق من شعور عام لدى كافة الناس من مواطنين ومقيمين في هذا البلد المبارك، تمثل في توحيد موقفهم من هذه الأحداث المؤلمة، وتجديد ولائهم لولاة أمرهم ولعلمائهم، وإدراكهم لأهمية التكاتف وشد الأزر وتضييق الفجوة على كل عابث بأمن هذا البلد أو مقدراته، أو مكتسباته الكبيرة في مجالات الحياة المختلفة، ففي مثل هذه الأحداث يتحد الناس حول الهدف الأسمى، ويدركون جميعاً أن الخطر لا يستثني أحداً، وأن الانحراف والغلو لا يولد إلا دماراً يبدأ بتدمير عقل صاحبه، حتى يتحول إلى مسخ فكري وديني، يظهر بمظهر أهل الإيمان، وينطوي على نفس شيطان، يحطم ما أمامه، ويستهين بكل من حوله حتى يخيل إليه أنه ربما استدرك على الله في خلقه وأمره، والعياذ بالله، وما قصة ذي الخويصرة ببعيد من ذلك حينما اعترض على قسمة الأمين محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم للغنائم في حنين قائلاً: هذه قسمة ما أريد بها وجه الله!!؟؟ وفي مثل هذه الأحداث المؤلمة، وبكشف اصحابها وفضحهم، يكون استحقاقهم للإثم والعقوبة الدنيوية والأخروية استحقاقاً لا مفر لهم منهم، فيحرمون من كل شفقة ورحمة في الدنيا والآخرة، ويضيفون بعملهم هذا لمن أغواهم وغرهم، وكان سبباً في تزيين باطلهم، رصيداً سيئاً من السيئات والآثام حتى يقع حينما يقع وليس له من يبكي عليه، ولا من يترحم عليه او يأبه به، ولعل هذا ما يظهر في قوله سبحانه في آية النور: (لكل امرئ منهم ما اكتسب من الأثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم) «النور: 11». لقد استطاع بعض هؤلاء التأثير في عقول بعض الشباب بالاستهانة بأهل العلم، وإلصاق التهم عليهم بأنهم علماء سلطان، وأهل دنيا، لكن ما حدث أظهر حقيقة شرعية قام عليها دين محمد صلى الله عليه وسلم من أن ولاية الأمة بعد رسولها عليه الصلاة والسلام في بيان الحق وحمل الوحي وتبليغه إلى الأمة هي للعلماء الذين ورثوا العلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في الحديث: (إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر)، وأن الأمة بدون علمائها الراسخين المشهود لهم بالصلاح والتقوى لا يمكن لها أن تحقق نصراً ولا هداية حقيقية، فهم بوصلة حركتها الفكرية والعملية، وهم هداتها في ظلمات الجهل والفتنة. كما أن بعد الشباب عن أهل العلم باب من أبواب الفساد، وسبيل لتفرد أهل الأهواء والضلال والانحراف بهم والعبث في عقولهم، وجرهم إلى تدمير أنفسهم وتدمير أمتهم، وجعلهم وسائل في أيدي أعدائهم يحققون لهم ما لا يستطيعون تحقيقه بأنفسهم، فهل كان أعداء الأمة من الكفار والمنافقين يحلمون بتحقيق شيء في إيذاء هذا البلد الذي جعله الله آمناً، وأجرى على يد ولاة أمره وعامة أهله من الخير الذي عم أرجاء الأرض ما يعجز الواصف عن وصفه، وحفظ به منهج السنة علماً وعملاً في وقت طغت فيه البدعة وتفرعت في كثير من بلاد المسلمين، فضلاً عن فرق الضلال والانحراف الفكرية، هل كان هؤلاء الأعداء يحلمون بتحقيق شيء أكبر مما حققه هؤلاء الحمقى من مفاسد وأضرار وشر في بلدهم وأهلهم؟ وهل كانوا سيقدرون على مثل هذا الدمار والفساد لو لم يكن هؤلاء الأبناء العاقون أداة من أدواتهم الطيعة؟؟ إن من ينظر للواقع الدولي من حولنا يدرك ان ما يجري هنا ليس منفصلاً عما يجري هناك، من حيث ان الاستهداف الذي يتعرض له هذا المجتمع المسلم لا يعدو عن كونه جزءاً من الاستهداف الذي يتعرض له المسلمون في العراق، أو في فلسطين على أيدي الأعداء الصرحاء من اليهود والنصارى، لكن المصيبة هنا تكون أكثر إيلاماً، وأشد وقعاً حينما يكون الاستهداف على أيدي أفراد من أبناء هذا البلد الذي نعموا بوارف ظلاله، وشربوا من نمير زلاله، وأكلوا من طيب ثماره، فقلبوا له ظهر المجن، وخانوا حقه وحق أهله من آبائهم وأمهاتهم وإخوانهم وعلمائهم وولاة أمرهم. لقد كان الاولى بمثل هؤلاء ان يؤدوا بعض الحق لمجتمعهم، والوقوف بجانب ولاته في هذه المحنة التي تمر بها الامة، ويعملوا على توحيد الكلمة، ونبذ الفرقة، وتوفير طاقتهم لصالح امتهم ومجتمعهم، فكيف وحال من يتمنى مثل ذلك يرضى لو كان اداؤهم حق مجتمعهم عليهم بكف اذاهم عنه؟؟ لقد ردد البعض، سواء في مجالسهم او في منتديات الانترنت على وجه الخصوص كلاماً غريباً عجيباً، هو ان هؤلاء لو ترك لهم المجال للخروج هنا او هنالك لكان ذلك ادعى لاتقاء شرهم، واستثمار طاقتهم - زعموا -، واتعجب ممن يقول مثل هذا الكلام، اين هو من حال هؤلاء وواقعهم الذي يؤكد خبث طويتهم، واستبطانهم للشر واستظهارهم له، واستهدافهم لمؤسسات المجتمع واهله وامنه، فهل تمت المواجهة مع احد منهم او قبض عليه الا وهو متترس بانواع من السلاح التي تظهر عزمه على الافساد هنا لاهناك؟؟؟ وهل السيارات المفخخة، والآر بي جي والقنابل والصواريخ التي يمتلكونها اعدت للقضاء على العدو هناك، ام الافساد أمن واستقرار هذا البلد، واستهداف ابنائه ومؤسساته؟؟ لابد ان يعي الجميع ان استهداف مؤسسات البلد، خطوة الى استهداف العامة، ومن تجرأ على استهداف مؤسسة أمنية، او افراد أمن يعرف انهم يشهدون ان لا إله الا الله، وان محمداً رسول الله، ويصلون ويصومون، بحجة ما تأولوه بعقولهم الصغيرة انه موالاة للكافرين، او معاونة للظالمين كما يزعمون، لن يتورع غداً ان يستهدف عامة الناس للسبب نفسه، ولو بذريعة ضرب اقتصاد البلد الذي يزعمون كفره وردته، او تحت اي ذريعة اخرى من ذرائع الشيطان التي يوحيها اليهم والى شياطينهم من الانس. ومع اعتقادنا ان وراء هذه الجرائم اياد اجنبية مغرضة حاقدة، استغلت سذاجة هؤلاء الشباب الاغرار، الا ان هذا الاعتقاد لايعفي هؤلاء الذين سمحوا لانفسهم ان يكونوا أدوات وألعوبة في يد من قال الله عنهم: (وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وان كان مكرهم لتزول منه الجبال) (ابراهيم: 46)، بل انه يكرس الشعور بمدى ماهم فيه من ضلال وعمى، وما يحملونه من عقول صغيرة، ونظرات قاصرة، يستهويها الاغراء، ويحكمها قرار اللحظة والنظرة الضيقة وتحركها قابليتها للتنفيذ الاعمى، لاقدرتها على التفكير وتقدير الامور والنظر في عواقبها ومآلاتها. ولاخواننا في الأجهزة الأمنية لفتة من هذا الحدث الاليم، اذ ان مثل هذا الاعتداء الذي قصد به اخوانكم، ومؤسسات بلدكم، يؤكد حقيقة بيضاء ناصعة، هي ان الجهد الذي يبذل في القضاء على مثل هذه الفئة الباغية نوع من الجهاد الذي يرجى لمن اسهم فيه ان ينال منازل الشهداء اذا ما صلحت نيته، ونوى بذلك الدفاع عن المسلمين وامنهم وحرماتهم، وحماية بيضتهم وتماسكهم من ان يزعزعه مفسد منحرف، او مضلل مخدوع، لاسيما في مثل هذه الايام التي تحيط بنا فيها الفتن من كل صوب، ويجثم فيها اعداء الامة على بقاع كثيرة من بلاد المسلمين، مما يجعل المحافظة على الأمن وحماية البلد مسؤولية تقع على عاتق كل مسلم في هذا البلد، فضلاً عمن انيطت بهم تلك المهمة العظيمة. اللهم احفظ علينا ايماننا وأمننا، ورد كيد الكائدين في نحورهم، واجعل امرهم في سفال.. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه اجمعين... ٭ الاستاذ المشارك في قسم الإعلام - كلية الدعوة والإعلام بالرياض جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية