الأفكار لا تنشأ في فراغ، بل لا بد لها من محاضن سياسية واقتصادية واجتماعية لكي تنشأ فيها وتنمو وتتطور وتتعرض لكافة عوامل التعرية الثقافية بما ذلك التعديل والتغيير واعادة التأويل والزيادة والنقصان وأخيراً الاضمحلال والاندثار متى ما توفرت الشروط التاريخية اللازمة لكل تلك التطورات أو بعض منها. من جهة أخرى فعوامل النشوء والتطور الملازمة لهذه الأفكار ليست ذات اتجاه واحد، بل انها - وهي ذات صبغة سوسيو تاريخية - تأخذ مسارين متلازمين ولكنهما - وهما في طريق سيرهما لتشكيل الواقع الفكري - ليسا على ذات النسبة من سرعة السير أو ابطائه في طريق التطور أو التقادم - هذان المساران هما مسارا التأثير والتأثر، فالأفكار تتأثر بظروف الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي لتكون انعكاساً لمجرياته وملبية لحاجاته ومحققة لأيديولوجياته، ولكنها بنفس الوقت ليست مُنتَجاً سلبياً فقط، اذ انها من خلال آليات اللغة الخاصة بها، تؤثر في الواقع المحيط بها أيضاً فتصوغ مكوناته أو تعدلها وفقاً للهدف المطلوب من الأيديولوجية التي تنشط الأفكار في ظلها وتعمل لتحقيق أهدافها، وتتم هذه العملية ذات الاتجاهين المزدوجين من خلال ما يعرف ب«جدل النص مع الواقع أو جدل الواقع مع النص»، بغض النظر عن التفرقة التي قال بها علما الايبيستيمولوجيا بين ما يعرف بالنصوص الممتازة وما يعرف بالنصوص الرديئة . هذا يعني أنه يجب على الباحث لكي يقيِّم مفردات التراث من المفاهيم والتصورات والنظريات وفروع العقائد تقييماً موضوعياً ليعطي رأيه فيها وفي أصحابها فلا بد له من موضعتها تاريخياً، أو بعبارة أخرى لا بد له من اعادة تبيئتها في جذور التاريخ كله، السياسي منه والاجتماعي والاقتصادي، الا أنه فيما يخص فروع العقائد بالذات التي نحن بصدد الحديث عن بعضها، فلا بد من التركيز بشكل أكبر على اعادة زرعها في التاريخ السياسي لها والتي نشأت مسايرة له أو معاكسة له، اذ ان معظمها ان لم تكن كلها كانت عبارة عن أفعال سياسية وردود أفعال سياسية أخرى عليها بغض النظر عن من تولى الجانب السلبي من الأيديولوجية، والآخر الذي أراد تحرير تلك الأيديولوجية من التعالي الديني بها من خلال حركات تنويرية تمت في صدر الاسلام لم يشأ التاريخ السياسي المتدثر برداء الدين والمحافظ على أيديولوجيته القبلية ومكاسبه الغنائمية أن يفسح المجال لها لكي تؤدي دورها وفق ما أراد لها أصحابها. ومما يجدر التنبيه عليه هنا أن مصطلح «العقيدة» أمر تواضع عليه العلماء الذين تبنوا مجال البحث في مجال الغيبيات فيما بعد الصدر الأول، اذ لم يكن لذلك المصطلح أساس من النصوص الوحيية سواء من القرآن أو السنة، اذ أن المصطلح الأساسي الشرعي الذي جاء به القرآن والسنة النبوية هو مصطلح «الايمان» وهو عبارة عن مفهوم بسيط يرمز إلى ستة أمور من آمن بها أصبح مسلماً ومؤمناً كامل الايمان لا يحتاج معه الأمر إلى امتحانات قلبية أو مماحكات لفظية أو حفظ مدونات عقدية لاثبات ايمان المرء ودخوله حظيرة الاسلام. أمور الايمان الستة المنوه عنها آنفاً جاء خمسة منها في القرآن الكريم وهي الايمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وهي مذكورة مفرقة في كتاب الله عز وجل منها قوله تعالى{ومن لم يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ظل ضلالاً بعيدا} ومفهوم دليل المخالفة المستنبط من هذه الآية الكريمة أن من يؤمن بهذه الأمور فهو مؤمن كامل الايمان، لأن الضلال عكس الايمان، وقد أضافت السنة النبوية الشريفة أمراً سادساً هو الايمان بالقدر خيره وشره، وهو ما يتضح من حديث عمر بن الخطاب الذي قال فيه: (كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فألزق ركبته بركبته ثم قال يا محمد ما الايمان قال ان تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، ، ، ، الخ ، الحديث) وفي آخر الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي عمر بعد ذلك بثلاث فقال له، يا عمر هل تدري من السائل؟ ذاك جبريل أتاكم يعلمكم معالم دينكم. هذه هي شروط الايمان التي يكفي المرء أن يؤمن ويقر بها لكي يكون مسلماً محفوظ الحقوق، وكان المسلم القديم في الصدر الأول فضلاً عن الجديد لا يمتحن في سواها ولا يطلب منه غيرها لاثبات اسلامه، يدل على ذلك حديث الجارية المشهور بعدة روايات وألفاظ، منها حديث معاوية بن الحكم السلمي رضي الله تعالى عنه قال (كانت لي غنم فيها جارية لي ترعاها في قبل أُحُدٍ والجوانية فاطلعت عليها ذات يوم فوجدت الذئب قد ذهب منها بشاة فأسفت وأنا رجل من بني آدم آسف مثل ما يأسفون واني صككتها صكة قال: فعظم ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قلت يا رسول الله أفلا أعتقها قال ادعها فدعوتها فقال لها أين الله قالت في السماء قال من أنا قالت أنت رسول الله قال انها مؤمنة فأعتقها)، وكذلك حديث عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود رضي الله عنه(أن رجلاً من الأنصار جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بجارية له سوداء فقال يا رسول الله ان علي رقبة مؤمنة فإن كنت تراها مؤمنة أعتقها فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم أتشهدين أن لا إله إلا الله قالت نعم قال أتشهدين أن محمدا رسول الله قالت نعم قال أتوقنين بالبعث بعد الموت قالت نعم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتقها)، وما يتضح من تلك الأحاديث أن الأمر الذي يحكم فيه على المسلم أنه أصبح مسلماً داخلاً في حظيرة الاسلام من أوسع أبوابها، هي هذه الأمور البسيطة التي توضح أن الدين يسر وليس عسراً، وأنه تبشير وليس تنفيراً ولا امتحاناً قلبياً ولا اختباراً أيديولوجياً، بل انه كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (ان الدين يسر ولن يشاد الدين أحد الا غلبه فسددوا وقاربوا وأبشروا .. الخ الحديث). عندما دخلت الاسلام أفواج كثيرة من غير العنصر العربي جلبت معها معتقداتها القديمة وموروثاتها العقائدية التي كانت تدين بها قبل الفتح الاسلامي وكان من الطبيعي أن تُثار من خلال تلك العناصر مسائل غريبة على العقل الاسلامي اضطرته فيما بعد إلى التقصي في بحث أمور ليست من الايمان في شيء، بالاضافة إلى ما احتاجته الدولة الأموية من ابتداع أيديولوجيات لتقرير شرعيتها بعد أن نزت على الخلافة الراشدة وما ترتب على ذلك من قيام معارضيها على اختلاف مشاربهم بمعارضة أيديولوجيتها بأيديولوجيات أخرى، كل ذلك ساعد في تضخيم أمر العقائد مما جعل كثيراً من منتجات علم الكلام والجدل حول كثيرٍ من تلك التطورات تتسرب إلى كتب العقائد وتبدو وكأنها نشأت في صلبها وفي كنفها الأصلي، رغم أن الأمر ليس كذلك، وبالتالي فليس هناك من الوجهة الشرعية ما يعرف بأصول العقائد مقابل فروعها، بل هو أصل واحد هو الايمان، وكل ما جاء بعد ذلك مما أُصطلح عليه أصول العقائد وفروعها، وهي التي أُلحقت بالعقائد وفقاً لأيديولوجية الجماعة أو المذاهب القائلة بها فهي مما تواضع عليه من امتهنوا ما أُصطلح عليه لاحقاً بعلم العقائد، ومن الطبيعي أن يضطر الباحث إلى مسايرة هذه المواضعة عند البحث عن أي من مفرداتها بعد أن أصبحت واقعاً تراثياً في حياة المسلمين (يتبع). [email protected]