لا تقاس قوة الأمم وارتقاؤها في سماء العزة بما يوضع على مؤائدها من مأكولات، وبما تمتطيه من مركبات، وترتديه من ملبوسات، وتحصل عليه من مشتريات، وتتطاول به من بنايات، وتبذله من مصروفات ونفقات، وتقتنيه من مقتنيات كمالية متنوعات، وتتباهى به من أصناف مادية مختلفات.. فليس في ذلك شأن يذكر أو يسجل لها؛ وانما الفضل الذي يحسب لها أن يكون لها رجال سليمة أبدانهم، مضيئة أبصارهم، مضاءة عزائمهم، سليمة عقولهم، ورشيدة تصرفاتهم، راسخة قيمهم، ومتزنة أولوياتهم، وحكيمة قراراتهم.. لأن قوة الأمم لا تقاس بحجم مصروفاتها ونفقاتها، وانما تقاس بقوة اقتصادها، ولا يكون اقتصادها قويا الا عندما يكون ما تحافظ عليه في مأكلها ومشربها ومواردها، وما تدخره من مصروفاتها ونفقاتها أكثر مما تنفقه وتستهلكه سواء كانت حكومات وشعوبا أو جماعات وأفرادا، وأن ما توفره من دخلها وتحافظ عليه من ثرواتها زاد لها لمواجهة ما قد يحمله المستقبل لها من مفاجآت، وعزة لأجيالها المتعاقبة من بعدها. لقد ابتلي مجتمعنا بصفات تتنافى مع ما تنادي به شريعتنا الإسلامية الغراء من قيم تحث على حفظ الثروات والموارد من الهدر، وعدم التفاخر في الإنفاق، والمباهاة في الصرف في تنافس مشين وإسراف بيّن وتعدّ ظاهر تجاوز مرحلة التوازن وحدود الاعتدال المحمود؛ وهو ما يقود الى القول بان تلك السلوكيات والممارسات لا تعكس حقيقة ما يفترض أن يتحلى به المجتمع المسلم بكافة مكوناته من خصال تعكس حسن التعامل مع النعم. ان المراقب لواقعنا في شأن الاستهلاك والإنفاق، ليجد الاسترسال في الصرف على أشياء ينتهي أغلبها في مكب النفايات، والإسراف في النفقات التي يمكن تكييفها بالمزدوجة والكمالية، والتي تؤدي إلى تراكم الديون واستنزاف المخصصات، وبالتالي يترتب عليها أثقال الكواهل بمالا يطاق وصرف النظر عن الأولويات والضروريات، في ظل ما تمر به المجتمعات المجاورة من مجاعات وأسعار البترول من تدهور والاقتصادات العالمية من ركود. إن ممارسات الإسراف والتبذير والإفراط في الاستهلاك والانفاق واستتنزاف الموارد التي يخشى على الجميع منها، تستدعي تدخل العقلاء لإرشاد وترشيد المجتمع وتوعيته وتذكير الجميع سواء كانوا هيئات ومؤسسات أو أسرا وأفرادا بالعواقب، وكذلك وهو الأهم بالأخذ على يدي المتساهلين وكف يدي العابثين من المسرفين والفاسدين والمفسدين وضبط اقتصاد الوطن وحفظ ثرواته، والحد من الإسراف والتبذير والإفراط في الاستهلاك والإنفاق الذي لا يعكس سوى الاستسلام للشهوات والملذات والانقياد للأهواء والرغبات وحب للمباهاة والمغامرات والخروج على النظام، من غير مراعاة للمصالح ولا تقدير للعواقب ولا حفظ للمروءات ولا مراعاة للحقوق ولا صيانة للموارد والثروات، ولا تحسبا لما قد يحمله الغد لنا جميعا من مفاجآت في ظل ما تفرضه الأحداث العالمية المتواترة من تداعيات وتطوارت. ولهذا نقول ان تعاظم الأمم وارتقاءها في سماء العزة لا يكون إلا بالترشيد في الاستهلاك والاقتصاد في الإنفاق وحفظ الموارد، وان الاسراف في الانفاق والاستهلاك بكافة صوره وأنماطه عدو لحفظ الثروات والموارد وهو طريق سريع للإفلاس والفقر، وذلك لأن تضييع القليل يجر بالتأكيد الى تضييع الكثير، أخذا في الاعتبار أن حفظ النعم هو حفظ لمقاصد الدين الكبرى كمقوم أساسي لبقاء الأمة وقوتها ونمائها وسعادتها.. فهلا أدركنا أن الشكر لله جل في علاه، يستلزم الترشيد في الإنفاق والاقتصاد في الاستهلاك بتقييد حسن التعامل مع النعم وحفظها قبل أن تزول.