لنتصور يوماً أننا دخلنا مستشفى الملك خالد الجامعي على سبيل المثال، فوجدنا الأطباء الاستشاريين قد جلس كل واحد منهم على كرسي وثير، خلف مكتب كبير، وحوله عدد من الموظفين والسكرتارية، يقومون على خدمته، وتلبية أوامره، وتتوالى عليه الأوراق والمعاملات.. أليس ذلك أقل جهداً من الدوران في أروقة المستشفى ومعاينة المرضى، وتحمل أعبائهم؟ أي خلل سيحدث في المستشفى؟ وأي شلل سيصيبه؟ إن اهتمام وزارة التربية والتعليم بالجوانب الفنية في العمل التربوي شرط لنجاحها في تحقيق أهدافها، فهي لب العمل التربوي والتعليمي وأساسه، والوزارة ليست عاجزة عن ذلك فهي على مدى سنوات طويلة استطاعت تطوير كوادر وطنية، وخبرات فنية، في تخصصات دقيقة، بصورة ملفتة للنظر، ومثيرة للإعجاب، وذلك عن طريق الابتعاث الداخلي والخارجي، والدورات والزيارات، وغيرها من أساليب تطوير الأفراد، فلدى الوزارة متخصصون في التخطيط، والإدارة التربوية، والمناهج وطرق التدريس، والتقويم، وعلم النفس، والتقنيات التربوية. وهم مؤهلون لإعداد البحوث، وتطبيق التجارب، ودراسة واقع التعليم وتشخيص مشكلاته، وايجاد وسائل التطوير، ومجالات الإبداع والتجديد. ولكن بالرغم من ذلك أخفقت الوزارة للأسف في تهيئة الجو المناسب لهذه الكوادر والاستفادة المثلى منها، وتوظيف خبراتها ومعلوماتها لخدمة الوطن الذي قدم لها الكثير، ولذلك فإن العاملين في الميدان التربوي لا يجدون أثراً ظاهراً لهؤلاء الخبراء في عملية التطوير. - متى رأينا في الصحف أو وسائل الإعلام نتائج لدراسة علمية صادرة من الوزارة؟ - متى رأينا قراراً اتخذ بناءً على توصيات دراسة علمية لحل مشكلة تربوية؟ - أين البحوث الميدانية والبرامج التطويرية الجادة؟ أذكر أن الوزارة - منذ سنوات عدة - نظمت زيارة لخبير نرويجي اسمه (ديلن) وقد زارنا في تعليم الخرج، وكان رجلاً متواضعاً، كبيراً في السن يتوكأ على عصا.. وبعد أن اجتمع بمدير التعليم عشر دقائق طلب زيارة عدد من المدارس، وكان يتجول بين فصول المدرسة ثم يجتمع بالطلاب أولاً، ثم بالمعلمين، ويطرح عليهم بعض الأسئلة.. وفي نهاية اليوم نفسه قدم لنا انطباعاً صادقاً عن واقع التعليم في المحافظة.. وكنا نتحلق حوله نستمع إلى كل كلمة يقولها، ذلك أننا نعرف أنه خبير تربوي شارك في إعداد مناهج عدد من الدول الأوروبية. ولا زلت أتذكر زيارات الخبير التربوي الدكتور عبدالله بن علي الشلال، عندما كان يزور تعليم الخرج لتطبيق تجربة في قراءة الصف الأول الابتدائي، ونجتمع حوله ونستمع إليه بشغف عن خطط الوزارة المستقبلية ومشاريعها في تطوير المناهج..، وكان رجلاً جاداً متواضعاً، يعنى بالشؤون الفنية ويعشقها، ولا يحب البهرجة والأضواء. منذ سنوات تفشت ظاهرة التطلع إلى المناصب، وبدأ التنافس على الكراسي، بين هذه الخبرات الفنية المتميزة، وصار التقرب إلى المسؤول والحصول على رضاه أمراً ضرورياً.. فمن حصل على المنصب الذي يطمح إليه انشغل بالمهام الإدارية الجديدة، ومن لم يحالفه الحظ ضعفت همته، وقتلت طموحاته، وذهبت آماله أدراج الرياح!!. ولا شك أن المناصب في الوزارة محدودة، لا يمكن أن تستوعب أصحاب الشهادات العليا، كما أنهم في الأساس أصحاب شهادات فنية وليست إدارية، ولذلك قد يمتلك بعضهم مقومات الشخصية القيادية، وقد لا تتوافر لدى آخرين. وهنا نتساءل: هل نلقي باللائمة على أصحاب الخبرات أم على الوزارة؟ أليس من حقهم وقد أمضوا سنين عديدة في البحث والدراسة أن يتسنموا منصباً يحصلون عن طريقه على نصيبهم من الدورات والزيارات واللجان وغيرها؟ إنني أعتقد أن النظام الإداري (الهيكل التنظيمي) هو سبب رئيس في ظهور هذه الظاهرة، وانتشار هذا الداء، حيث يحصر الصلاحيات - الفنية والإدارية - في يد المدير العام أو وكيل الوزارة.. ونحوهم من أصحاب المناصب الإدارية. في دول العالم المتقدمة (خبير) يعني منصباً فنياً عالياً، له مقامه الرفيع، واختصاصاته ومميزاته. ولذلك أدعو إلى إعادة النظر في الهيكل التنظيمي للوزارة، وتضمينه تصنيفاً للخبراء، يضمن لهم مميزات مناسبة وصلاحيات في الشؤون الفنية، مما يحفزهم على إجراء البحوث الميدانية، وتطبيق التجارب التربوية.. وايجاد الحلول لمشكلاتنا التربوية التي لا تُعد. إن بلادنا تعيش ولله الحمد نهضة حضارية في جميع المجالات، ولكن تعليمنا لن يواكب هذه النهضة ما دامت النواحي الإدارية والمناصب.. وما يتبع ذلك من الاهتمام بالجوانب التنظيمية.. شغل كثيراً من العاملين في الوزارة من المتخصصين وأصحاب الفكر التربوي. وختاماً فإن نجاح الوزارة يعتمد في المقام الأول على نجاحها في إعداد الخطط والبرامج التعليمية، وتصميم الأنشطة، وبناء المقررات، وتقويمها وتطويرها.. مما لا يقوم به سوى عقول فنية، وأيد خبيرة، تنزل إلى الميدان، وتدرس مشكلاته، وتتعرف على احتياجاته، بأساليب علمية تقوم على البحث والتجريب. وأما تحقيق النجاح من خلال عملية إصدار التعاميم والتوجيهات، وسن الأنظمة واللوائح، وإقامة الاحتفالات والمعارض.. فإنه أمر مستبعد الحدوث. إن الطالب داخل الصف، والمعلم داخل المدرسة، ما زالا خارج اللعبة وبعيداً عن دائرة التأثر والتأثير.. فما زالت - منذ سنين - مدارسنا كما هي، بنظامها التعليمي، وطرق التدريس، ومشكلات التعليم نفسها، بالرغم من تغير المسؤولين، واختلاف القرارات، وتجديد الأنظمة، واللوائح، وتوالي التعاميم، والحراك الإداري الهائل. ولننظر - على سبيل المثال - إلى ظاهرة الضرب في المدارس، فقد توالت التعاميم سنين عديدة للقضاء عليها، بينما لا يكاد تخلو مدرسة من ممارسات العقاب البدني، في حين الوزارة تطمح إلى التعليم عن طريق الحاسب الآلي، وتوظيف خدمات الإنترنت، والتوسع في مشروع مصادر التعليم.. بينما احترام شخص الطالب ما زال مثار جدل؟! هذه وجهة نظر خاصة أرجو تقبلها بصدر رحب لأن هدفنا جميعاً الرقي بمجتمعنا والنهوض بأمتنا.