الشعر الجاهلي أحد المصادر المهمة لدراسة تاريخ العهود القديمة، وبخاصة تلك التي تسبق ظهور الإسلام بقرنين أو ثلاثة من الزمان، والوقت المذكور هو وقت توقف النقوش القديمة ذات المحتويات التاريخية الجيدة باستثناء بضعة إن لم تكن أقل، تلك النقوش التي خلفتها الدول مثل سبأ ومعين ودادان.. الخ التي سادت وبادت في اجزاء الجزيرة العربية المختلفة. وإلى جانب الشعر الجاهلي هناك دراسات آثارية ميدانية للآثار الثابتة والمنقولة والنقوش المكتوبة. وبالاضافة إلى ذلك يوجد في المصادر التاريخية المتنوعة مثل اليونانية والرومانية والبيزنطية والإسلامية كمّ من المعلومات إلا انه لا يعطي الصورة التاريخية لأي كيان قديم في الجزيرة العربية. ولذا يكاد الشعر الجاهلي أن يكون هو المصدرالوحيد لكتابة تاريخ القرنين السابقين على ظهور الإسلام، ليس لانه لا يوجد غيره، ولكن لعدم تفعيل غيره من المصادر وتحديداً الدراسات الآثارية على اختلاف أنواعها والتي لا تزال في مرحلة تقديم المادة أكثر من كونها في مرحلة استقرائها وبناء التاريخ منها؛ وسنبقى وقتا قد يطول بحاجة إلى تقديم المعلومات الميدانية لتتراكم ثم يصبح استقراؤها أكثر فائدة. لم يدرس الشعر الجاهلي من حيث الاستيطان والحياة السياسية في وسط الجزيرة العربية على وجه الخصوص. وأقول وسط الجزيرة العربية لأن أغلب الشعراء الجاهليين وبخاصة أصحاب المعلقات ينتمون إلى هذا الجزء. لا أدري لماذا؟ ولكن قد يكون من بين الاسباب ارتباط الشعر بعالم البادية، وربما ان للكثافة البشرية دورا في وجود عدد كبير من الشعراء. فعلى سبيل المثال نجد ان شعراء المعلقات العشر من وسط الجزيرة العربية، فامرؤ القيس الكندي من عالية نجد، وعنترة بن شداد العبسي من شمال الوسط، والنابغة الجعدي من وسط الوسط، ولبيد بن ربيعة العامري من وسط الوسط، والنابغية الذبياني من شمال غربي الوسط، وطرفة بن العبد من غربي وسط الوسط، وعمرو بن كلثوم من شمال غربي وسط الوسط، وأعشى قيس من قلب الوسط. وإذا أخذنا شعر عنترة بن شداد العبسي مثالاً على شعر معاصريه وسابقيه لوجدنا ان عنترة يميل في شعره الحديث عن الذات والافتخار بالشجاعة ومكارم الاخلاق والوجد على محبوبته عبلة بنت مالك على خلاف غيره من الشعراء الذين يميلون في شعرهم إلى اغراض اخرى. ومع وجود تلك الاغراض يبقى شعر عنترة العبسي مصدراً لتاريخ وسط الجزيرة العربية إذ يكثر فيه الحديث عن المعارك التي يذكرها باسمائها والتي لم يسبق أن قرأت عنها في الكتب التي تعنى بأيام العرب في الجاهلية وذلك مثل يوم الشِّباك الذي يرد ذكره في الأبيات الآتية، كما يذكر عدداً من القبائل التي كانت لها حروب مع قبيلته باسمائها وفي الأبيات الآتية عدد منها على سبيل المثال. يقول عنترة: وسلي بنا عُكا وخشعم تُخبري وسلي الملوك وطيئ الأجيال أو آل ضبة بالشباك إذ اسلمت بكر حلائلها ورهط عقال وبني صباح قد تركنا منهم جزراً بذات الرمث فوق أثال زيداً وسوداً والمقطع أقصدت أرماحنا ومجاشع بن حلال رعناهم بالخيل تردي بالقنا وبكل أبيض صارم قصال يوم الشِّباك فأسلموا أبنائهم ونواعماً كالربرب الأطفال من مثل قومي حين تختلف القنا وإذا تزول مقادم الأبطال في الأبيات الواردة أعلاه نجد أن عنترة قد ذكر من القبائل عك وخشعم والملوك وطيء وآل ضبة وبكر وبني صباح. كما ذكر يومين من أيام العرب الاول هو يوم الشِّباك الذي لا يرد له ذكر في مكان آخر، والثاني يوم أثال. والواضح من اسماء القبائل التي ذكر أن هناك كثافة بشرية كبيرة في الجزيرة العربية قبيل ظهور الإسلام، فقبيلة خشعم تقيم في الجنوب بينما تقيم طيء في شمال الوسط وبينهما كانت تقيم قبيلة عبس التي ينتمي اليها عنترة وهو فارسها على الاطلاق، فهذه الحروب التي شنتها عبس فهاجمت طيء الواقعة إلى الشمال منها، وهاجمت خشعم الواقعة إلى الجنوب منها ليدل على وجود كيان سياسي لعبس في الجزيرة العربية نعرف القليل عنه، ولن نعرف الكثير إلا أن عرفنا مستوطنات الأمة العبسية التي توجد في أماكن كثيرة من الجزيرة العربية ومنطقة القصيم هي مقرها الرئيس وفيها يجب أن يبدأ البحث الميداني.