أدخل إلى مكتبتي مبتدأ صباحي وخبر مسائي، فأحس بسكينة تهبط عليّ، أتفقد كتبي، أمرر أصابعي عليها بحنان وكأني عاشقة متيمة تربطني بها علاقة حميمة فهي جميع أصدقائي الطيبين والأشرار، المزعجين والبليدين، ففيها لا تتكاسل الوعود، ولا تغيب أبجدية التفكير، أعيش في مكتبتي مع الكثير من الموتى، برناردشو، أندريه جيد، جان بول سارتر، دوستويفسكي، أوسكار وايلد، طاغور، ديكنز، وطه حسين، أنطون تشيخوف وغي دو موباسان، في مكتبتي يفتح رضوان لي الأبواب ويجلسني في جنة الحرف. هي ثروتي الورقية التي لا أكف عن العناية بها وتدليلها، فالكتاب عشق من نوع عصيّ، يعذبك على قدر اشتهائك له. يذكر بورخيس في أحد حواراته بعد أن أصبح كاتباً: "كان عند أبي مكتبة كبيرة. وكان مسموحاً لي بقراءة أي كتاب منها، حتى تلك الكتب المحظورة على الأطفال، في العادة. من ذلك مثلاً كتاب "ألف ليلة وليلة". قرأت الكتاب بكاملة، وهو كتاب أراه الآن يزخر بالفواحش، التي لم ألاحظ أياً منها في ذلك الحين لأن ما كان يهمني منها حينئذ هو سحر ألف ليلة وليلة، لقد استولى عليّ ذلك السحر إلى حدّ أنني قرأت البقية جميعا، دون أن أنتبه إلى أي دلالة أخرى. ولكن، مع مرور السنين، أدركت الآن، أنني في الحقيقة لم أغادر تلك المكتبة أبداً، ومازلت أواصل قراءة الكتب التي فيها". والأكيد أنه بعد أن كبر بورخيس أصبحت تلك المكتبة مكانه المفضل، وأراد إعادة اكتشاف قراءاته من خلالها، ومن خلال إيمانياته فهو يؤمن أن العالم مكتبة كبيرة وله رسالة معينة، وكل كتاب فيها هو أيضاً مكتبة، وهذا العالم المحشود في عقل وقلب بورخيس جعل منه كاتباً مميزاً ينظر للعالم على أنه كتاب مثمر يصنع منك فيلسوفاً حيناً وشاعراً في أحيايين أخرى, ولو تعمقنا في نظرته وفلسفته سنجد فيها الكثير من المنطقية، فنحن نتعلم من تجاربنا وكل ما يمر بنا يزخر بالتأملات والتوليدات، فالحياة بلا تجارب تشبه نبات الصبار قاسية وجارحة، فالتجربة التي تتعلمها من كتاب الحياة تجعل أفقك أرحب، وأحكامك ألطف، وقدرتك على تقبل العالم بكل مافيه أكثر مرونة، لنعيد صياغة نظرتنا لكل ما حولنا من جديد، ولننظر للعالم وكأنة موسوعة مليئة بالمعلومات والخبرات والتجارب.