سياحتنا الخارجية هذا العام كانت وعرة ومليئة بالمطبات التي انعتق منها البعض بينما البعض مابرح يكابدها، سياحتنا شكلت قضية رأي عام ليس محلياً فقط بل تجاوزه عالمياً أيضاً، ولعل وسائل التواصل الاجتماعي ومقتطفات من الإعلام الخارجي أسهمت في جعلنا في قلب الحدث عبر نقل مباشر وبث طازج خرج للتو من فرن الموقع. طبيعة التجاوزات التي حدثت لا نستطيع أن نجد لها المبررات والمسوغات التي حاولها البعض، إما بذريعة أن كل السياح يقومون بهذا الأمر وأننا أفضل من السياح الذين يسرقون.. وسواه!! أو أن ما شاهدتموه مجرد ممارسات فردية لا علاقة لها بالمجموع. وأشك في هذه الذرائع، لأنني أعتقد أننا نضع ثيابنا في خزانتين مفصلتين إحداهما ثياب السفر والأخرى ثياب الوطن، ولكن فيما يتعلق بالسلوكيات والقيم والأخلاق لا نملك إلا خزانة وحيدة وعندما نسافر نضطر إلى استعمال أخلاقنا الخاصة بالفضاء العام المحلي في الخارج.. وهنا يظهر المأزق لأن علاقتنا مع الفضاء العام سلبية في كثير من أطوارها. نظامنا المدني لم ينضج بعد، ولم نرسخ علاقتنا مع الأنظمة والقوانين والخطوط الحمراء، وهي الضوابط التي تنظم العلاقة بين سكان المدينة الحديثة، تلك العلاقة القائمة فوق بنية تحتية أهم مقوماتها (السلام والتسامح وقبول الآخر والمساواة فى الحقوق والواجبات، والثقة في عمليات التعاقد والتبادل المختلفة. أو ما يطلق عليه الثقافة المدنية، وهى ثقافة تتأسس على مبدأ الاتفاق؛ أى وجود حد أدنى من القواعد المكتوبة التى تشكل خطوطاً حمراء لا يجب تجاوزها، على رأسها احترام القانون). بينما يكمن في أعماقنا ذلك الصحراوي الحر الذي ألف الآفاق المفتوحة المنداحة بلا حدود أو ضوابط، الصحراوي وعلاقته البسيطة غير المتكلفة مع محيطة عندما يفترش الأرض ويلتحف السماء، لم يؤصل لتعاقد منافع مع الأنظمة والقوانين. فالقانون لديه لم يدخل حيز القداسة والتشريع السماوي (التابو) ولا يقاربه بمقياس الحلال والحرام، بل هو محض قانون أسقط عليه بصورة فوقية، ويستطيع وفقاً لطبيعة العلاقات الاجتماعية لدينا، أن يخترقه وقت ما يشاء داخل محيط مجتمعات تتجذر بها المناطقية والقبلية والعلاقات العائلية، على حساب الدولة المدنية الحديثة دولة القانون والمؤسسات، ومن هنا أصبحت علاقتنا مع القوانين العامة هي كيف نلتف أو نقفز عليها وليس كيف نطبقها. خطنا الأحمر سرعان ما يبترد ويهدأ ويصبح باهتاً، والقوانين والأنظمة لدينا لا تحميها قناعة بأنها وضعت بالتوافق الجمعي لدفع الضرر وجلب المنفعة، بقدر ماتتكئ على روابط من نوع (.. هل من جماعتك أحد في..، أو تعرف أحد في..) حتى باتت لغة مواربة شبه رسمية يتعارف عليها الجميع. وعندما نحمل هذه الحقيبة إلى خارج محيطنا الحيوي، هنا يحدث المأزق! الذي يبدأ من تذمر سكان البلد المضيف من حلولنا، مروراً بتأجج الإعلام ويتصعد ليصل إلى مآزق دبلوماسية. عرفنا أن نصنع محاذيرنا الدينية، وأتقنا صناعة محاذير على مستوى الحريات ومعارضة الرأي، لكن ماذا عن (منظومة القيم الجالبة للخير والطاردة للشر والتي تعرفت عليها الأمم بأنها الأخلاق)؟ هل هناك تطبيقات عملية باكرة تبدأ كنموذج يحتذى من المنزل إلى المسجد والمدرسة انتهاء بالسوق؟ كيف هي علاقتنا مع البيئة، الاصطفاف في طوابير، نبرة الصوت المهذبة، مع الذوق والكياسة، اللياقة في القيادة، الوجه الدمث اللطيف، أبسط شروط المجتمع المدني الحديث التعايش والتسامح والقبول، مع قواعد عرفية تشكل بنية الحياة اليومية للناس، تقوم على النظام لا الفوضى، وعلى السلام لا العنف، وعلى العيش المشترك لا العيش الفردي، وعلى القيم الإنسانية العامة لا على القيم الفردية أو النزعات المتطرفة، يعني ببساطة مغادرة الفضاء الصحراوي إلى الفضاء المدني.. الفضاء الصحراوي الذي ينمذجه الشاعر الجاهلي عمرو بن كلثوم في معلقته بقوله: ونشرب إن وردنا الماء صفواً... ويشرب غيرنا كدراً وطينا وهو بيت يعكس الأنانية الفردانية، وموقف عدواني بدائي ضد الآخر الذي يشاركني محيطي الحيوي، فعبر سلطة القوة لا يظل له سوى الكدر والطين. السائح لا يسافر وحيداً بل يدخل في رداء وطني كبير فضفاض يعكس شعباً وأمة، وعندما تتنزه في مدن العالم ومن ثم تلطخها بسلوكيات لا حضارية، لن يقول الغرباء، بأنك حالة فردية من الهمجية، ولكن ببساطة ستتبلور صورة ذهنية كوصمة، ستتربص بوطنك في كل منعطف داخل مدن العالم. المقاطع المستهجنة التي عكست سياحتنا الوعرة هذا العام، شكلت صدمة للوعي الجمعي، أرجو أن يتبلور عن هذه الصدمة نقاش جمعي عميق عن طبيعة علاقتنا مع الفضاء العام، وهل قيمنا المدنية تخدم محيطنا.. أي ببساطة هل مدّنا الصحراء أو أننا صحّرنا المدينة؟؟ لمراسلة الكاتب: [email protected]