وبعد كل الإغراءات المادية والمعنوية التي نثرتها مقايضة، في سبيل إنهاء كتاب، وتلخيص مجمله، باءت مساعي بالفشل. كنت ارقب حركة ابني المتململة من وراء نظارتي واظهر التشاغل عنه لعله يثبت في مكانه، كنت اراه يتحرك يمنة ويسرة، في وضع يدل على شيء واحد هو "التأفف" وعدم الرغبة، وأخيرًا وبلا اي مقدمات أعلن رغبته واضحة بعدم رغبته قراءة الكتاب الذي طلبت منه إنهاءه ضاربًا بكل اغراءاتي عرض الحائط والتنازل عن جميع المغريات. تركه على الطاولة وأنسل خارجًا بهدوء شديد، وكأن الامر لا يعنيه، من قريب أو بعيد. أدركت عندها الاستسلام بشكل دفعني الى التفكير لأتساءل ما الذي يمكن أن أصنعه لأقنع جيلا مثل هذا بأهمية القراءة؟. وتذكرت كيف كنا نلتم أنا وإخوتي حول أخي الأكبر في نهاية كل اسبوع ونحن ننظر بشوق الى مجموعة المجلات والكتب الأسبوعية التي يضعها بجانبه لكونه الكبير ليحدد لنا خطة محكمة تمكننا جميعًا من أن نقرأ حصيلة الأسبوع.. كنا ننتظره بلهفة وتشوق، حتى أن بعضنا كان يمسك الكتاب ولا يتركه الا بعد أن ينتهي منه. وتساءلت في نفسي: أي دافع كان يتملكنا لنقبل على القراءة بهذا النهم؟ وهل يقتصر هذا على ذوق الكاتب وأسلوبه الروائي في الكتابة؟ أو أن نوع الإثارة في القصص ... أم ماذا؟ ولا ازال أتساءل ولا أجد جوابًا شافيًا. وحتى متى؟ يصلني تفكيري الى نتيجة أن السر يكمن في كوننا كنا نبحث عن المعرفة، كنا نشعر بالغموض ونحاول ان نكتشفه، كنا نبحث عن ذات القصة ونعيش فيها بل ونتقمص أدوارًا فيها. اليوم وبعد أن تم اختصار طرائق المعرفة في ضغطة زر، ما الذي يسترعي اهتمام هذا الجيل إضافة الى المغريات المحيطة التي حولت جيلا بأكمله الى مجرد مؤد لدور المنافس على البطولة وهو يجلس في مكانه بلا اي حركة سوى الصراخ عند الهزيمة أو الانتصار؟ لا فرق فقد تساوت الأمور وبات الانفعال والصراخ بصوت عال هو الوسيلة الوحيدة للتعبير عن محتوى تفكيرنا. هكذا يكبر هذا الجيل وتتبلور أفكاره لتتقلص طموحاته عبر شاشة التلفاز أو غيرها سواء كانت اي باد او حتى شاشة الجوال. وأعود اقول رحم الله ابن سينا الذي كان يقبع للقراءة في النهار وفي الليل كان إذا تعب من القراءة ليلاً، أو أحس نعاساً يغالب النوم، يتمشى قليلًا لينشط ويرجع الى الكتب أمامه، ليقلب الورق الأصفر ويطارد الحروف والكلمات ليفهم من المغرب الى صلاة الفجر، يقرأ ويقرأ ويقرأ ليستمر علمه، ويكتب اسمه على قاعات المحاضرات في الجامعات الأوربية.