السيولة النقدية في مجتمعنا الآن تفيض كالطوفان.. وتتجه في معظمها لسوق الأسهم المحلية، وهي سوق ضيقة جداً مقارنة بالسيولة النقدية الهائلة والهادرة إن لم أقل المهدورة.. والسيولة النقدية تشبه السيل.. إذا وجد السيل العرم سدوداً تحفظه من الضياع في الأرض السبخة نفع كثيراً في سنوات القحط والجدب.. وإن لم يجد سدوداً تحفظه اندفع هائماً على وجهه يقلع الشجر والحجر «ويدربي» ما أمامه حتى يصل إلى أرض سبخة تبلعه بلا فائدة، فلا نبتاً أظهرت، ولا ماءً حفظت.. وإذا كان مجرى السيل العنيف ضيقاً فإنه يفيض على الجانبين، ويضر الأحياء والأشياء، ويكون ضرره أكثر من نفعه.. والسيولة النقدية في مجتمعنا الآن تشبه هذا السيل الذي يوشك أن يتحول إلى فيضان، فقد فاضت بسوق الأسهم الضيقة ورفعت أسهماً خاسرة عاثرة وأخرى أرباحها ضئيلة وإداراتها هزيلة، رفعت أسعارها إلى أرقام خيالية لا يصدقها العقل في بعض الشركات.. ٭٭٭ وهنالك عوامل كثيرة جعلت السيولة النقدية في مجتمعنا تنهال كالسيل المندفع، ومنها: 1- ارتفاع أسعار النفط حتى وصل سعر البرميل إلى 70 دولاراً «أكثر من ضعف السعر المستهدف». 2- تسابق البنوك لدينا في منح التسهيلات على الأسهم، وفي منح القروض الشخصية بالبلايين. 3- زيادة الانفاق الحكومي بشكل كبير، وهو خير على خير.. 4- عودة كثير من الأموال المهاجرة بعد أحداث 11 سبتمبر الشهيرة.. 5- الزهد في توجيه السيولة للأعمال الانتاجية «وفي مقدمتها بناء المساكن وبيعها» بسبب التدافع الكبير على سوق الأسهم.. كسب سهل بدون جهد! 6- انخفاض الفوائد البنكية وعوائد المرابحة الشرعية بحيث أصبحت النقود سائلة كالبحر الهادر.. 7- توجيه الشركات المساهمة سيولتها «وهي بالمليارات» للمضاربة في سوق الأسهم لتحقيق أرباح سريعة على حساب نشاطاتها الرئيسية.. 8- الهوس الجماعي بالأسهم حتى باعت بعض النساء مصاغهن، وباع بعض غير العقلاء بيوتهم، مع أن العرب تقول: «الدار ينبغي أن تكون أول ما يشترى وآخر ما يباع» 9- عدم تنظيم العلاقة بين المالك والمستأجر في قطاع الإسكان بشكل واضح حازم بحيث يتم دفع الإيجارات في وقتها أو إخلاء المسكن أو المتجر، مما جعل كثيرين يزهدون في بناء العمارات والمنازل بغرض التأجير ويجعلون أموالهم سائلة كالرمال المتحركة أو الرياح الساخنة تدخل سوق الأسهم وتخرج بسرعة.. إلى آخر الأسباب المعروفة.. ٭٭٭ إن توافر السيولة النقدية الهائلة هو - بحد ذاته - خير ونعمة وبركة، ولكن إذا تم توجيه هذه السيولة للقطاعات المنتجة، بدل جعلها تلف وتدور حول سوق أسهم محدود ترفعه وتخفضه، وترفعه وتخفضه «تفحط» في ميدان محدود هو عدد الأسهم الموجودة. «نقود كثيرة تطارد أسهماً قليلة» هذا هو تعريف الضخم بالضبط.. وهو ما جعل معظم أسهمنا تتضخم أسعارها حتى ان بعض الشركات ذات الربحية الضئيلة تجاوز مضاعفها المئة سنة!! ويعود ضيق سوق الأسهم لدينا إلى عدة أسباب معروفة ولا بأس من تكرار أهمها: 1- احتفاظ الدولة بنصيب كبير جداً من الأسهم غير القابلة للتداول «في سابك والاتصالات والكهرباء والمصارف وغيرها..» 2- احتكار البنوك لدينا «11 بنكاً فقط» مقابل ما يزيد على عشرين مليون نسمة غير الحجاج والزوار والسياح، أي بمعدل بنك واحد لكل مليونين من السكان!!!. وهذا هو نفس عدد بنوكنا حين كان إيراد المملكة في حدود خمسة مليارات ريال سنوياً، ويتوقع هذه السنة «2005» أن يزيد إيراد المملكة على خمسمائة مليار ريال! الإيرادات زادت مئة مرة والبنوك لم تزد ولا بنكاً واحداً، احتكار عجيب غريب لا يوجد له أي مبرر مقبول، فالترخيص لبنك وطني جديد ممنوع، ولا أدري لماذا؟ خاصة اننا مقدمون على الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية بنهاية هذا العام إن شاء الله، حيث سوف تغزونا البنوك العالمية في عقر دارنا فلماذا لا ترخص وزارة المالية ومؤسسة النقد العربي السعودي لبنوك جديدة برؤوس أموال كبيرة جداً نصيب المؤسسين فيها قليل، والكثير يطرح للاكتتاب العام للمواطنين بسعر خمسين ريالاً؟. حين طرح بنك البلاد «وهو ليس بنكاً جديداً بل إنه قد ألغى عدة مصارف قائمة اندمجت فيه» اندفع للمساهمة فيه ثمانية ملايين مواطن لم ينل الواحد إلا ثلاثة أسهم!!! لماذا تترك البنوك القليلة القائمة تحتكر سوقنا الضخمة واقتصادنا الكبير وسيولتنا الهائلة «وهي أموال المواطنين» ولا يتاح لهؤلاء المواطنين الذين يودعون أموالهم في هذه البنوك الاكتتاب العام في مصارف جديدة تتيح لهم منافذ جيدة للاستثمار، ولكسر احتكار البنوك القائمة، وتحسّن الخدمة، وتشعل روح المنافسة، وتوفر المزيد من فرص العمل؟ 3- ومع أن بنوكنا هي بحد ذاتها محتكرة لا يصرح لأي بنك وطني جديد غيرها.. مع ذلك فإن أسهمها أيضاً محتكرة لأفراد معدودين وعوائل محدودة فلماذا لا تحدد ملكية كل فرد في المصارف ويلزم بطرح ما يزيد على النسبة المحددة «ولتكن 5٪ خمسة في المئة مثلاً» يلزم بطرح ما يزيد على ذلك للبيع في البورصة خلال فترة زمنية كافية بحيث تدور أسهم المصارف بين الناس، فالمصارف يدعمها كل الناس بودائعهم ولا يستفيد من أرباحها الطائلة الهائلة إلا قلة قليلة؟ 4- لماذا لا ترفع بعض شركاتنا المساهمة رؤوس أموالها بشكل كبير، الشركات ذات النشاط الحيوي والنافع للاقتصاد وللوطن والمواطن. ولماذا تقترض بنوكنا وتصدر سندات بالعملات الأجنبية كأن لدينا نقصاً في السيولة؟ لماذا لا ترفع رؤوس أموالها في اكتتاب عام بعلاوة إصدار مناسبة؟. أسئلة كثيرة تدور في رؤوس كثيرين مثلي، والهدف منها والله هو مصلحة الاقتصاد الوطني والمواطنين، فالسيولة الهائلة بحاجة إلى توجيه نحو القطاعات المنتجة حتى لا تظل «تفحط» في مضاربات محمومة وخطرة حول أسهم محدودة بدون أي إضافة أو انتاجية.. ولماذا تضارب الشركات المساهمة نفسها في سوق الأسهم؟ لماذا لا توجه فوائض أموالها لتطوير نشاطها الرئيسي؟ إن السيولة بحاجة إلى سدود تنفع أيام الجدب، فدوام الحال من المحال.. ٭٭٭ إن سوق الأوراق المالية الفعال هو الذي ينجح في «توجيه الموارد النادرة للقطاعات المنتجة».. والموارد المالية تظل نادرة مهما كثرت لأن فرص الانتاج تظل أكبر وأكثر دائماً.. خاصة في ظل العولمة القادمة.. وسوقنا الآن تتوجه فيه الموارد النادرة «السيولة، إلى مضاربات محمومة لا تضيف المزيد من الانتاج، بل قد يتعلق من خلالها صغار المضاربين - وهم الأكثر - ويخسرون كثيراً. ومهما تكاثرت السيولة النقدية لدينا فيحسن أن نذكر ان الدين العام لا يزال كبيراً جداً، مما يوجب التخصيص بسرعة، وان لدينا بطالة، وفقراء ونمواً كبيراً في السكان، وهذا ما يعزز الإسراع في طرح شركات جديدة «مدروسة الجدوى، للاكتتاب العام، فهي توفر فرص عمل جديدة، ومنافذ استثمار راشدة وتنافساً شريفاً، وخاصة في قطاع المصارف، حيث ينبغي الترخيص لعدد كاف جديد من المصارف التي تطرح للاكتتاب فأقوى نظام في الاقتصاد الحر هو نظام «محاربة الاحتكار».