تُعدُّ المملكة إحدى الدول التي يوجد بها سوق كبير للرعاية الصحية؛ حيث تتوفر فيها أفضل وأحدث البنى التحتية والمرافق والمعدات الطبية، بيد أنَّ المملكة لا تزال تعاني من نقص في المستشفيات ومراكز الرعاية الصحية الأولية والأطباء وعدد الأسرَّة الشاغرة، في ظل تزايد عدد السكان، وانتشار العديد من الأمراض المزمنة المرتبطة بنمط الحياة الحالية، ويتحمَّل القطاع الخاص وكثير من رجال الأعمال جزءاً كبيراً من التقصير تجاه ذلك، من خلال عدم المساهمة ومشاركة القطاع الحكومي في العمل على سد العجز الحاصل في هذا المجال، الذي يُعدُّ جزءاً من ردّ الفضل للوطن الذي احتضنهم ومنحهم الفرصة والتمويل لإنشاء الأعمال المختلفة في العديد من المجالات. وبدأت حكومات دول مجلس التعاون الخليجي في الفترة الأخيرة تُرحّب بمشاركة القطاع الخاص للحدّ من الضغوط المالية وتعزيز قطاع الرعاية الصحية، حيث من المنتظر أن يتمّ إنشاء العديد من المراكز الصحية والمستشفيات الجديدة في المنطقة خلال السنوات المقبلة، وهو ما يعني وجود فرص استثمارية في هذا القطاع الحيوي المهم، بدءاً من البناء والبنية التحتية، إلى جانب تصنيع وتوزيع الأجهزة الطبية وغيرها من الخدمات الأخرى المرتبطة بهذا المجال. وطالب عدد من المتخصصين والمواطنين الجهات المعنية بإشراك القطاع الخاص ورجال الأعمال والموسرين والقائمين على الأوقاف في تخفيف العبء عن المستشفيات الحكومية، وذلك ببناء مشافٍ تأهيلية للمسنين، وذوي الاحتياجات الخاصة، وأصحاب الإقامة الطويلة في المستشفيات، سواء للنقاهة أو تقديم خدمات تمريضية، على أن يتمَّ ذلك وفق إجراءات معينة تضمن خدمة متميزة واستدامة تضمن نجاحها. الطب المنزلي وأكَّد د. منصور الطبيقي -أحد منسوبي وزارة الصحة- على أنَّ كثيرا من المستشفيات الحكومية تعاني نتيجة النقص الكبير في عدد الأسرَّة، خاصةً أسرَّة العناية المركزة، مُضيفاً أنَّ هذه المشكلة ما تزال قائمة دون أيّ حلول، في ظل الزيادة المطردة في عدد السكان وعدم اكتمال المستشفيات الجديدة التي أنشأتها وزارة الصحة في العديد من مناطق المملكة، موضحاً أنَّ إشغال الأسرة في المستشفيات يكون إمَّا بحالات مرضية طارئة أو مُركَّزة أو تأهيلية مزمنة. وأضاف أنَّ تلك الحالات تشغل الأسرَّة لفترات طويلة، وذلك على الرغم من أنَّه يتمّ التعامل مع بعضها من خلال ما يُسمَّى الطب المنزلي، وهو عبارة عن زيارات منزلية يقوم بها فريق الوزارة للمريض في بيته وتقديم الرعاية الطبية والتمريضية والتثقيفية له ولأهله، مُشيراً إلى أنَّ ذلك أسهم في تقليل إشغال الأسرة، إلى جانب حماية المريض من التعرُّض لعدوى المستشفيات، بيد أنَّ هذا التوجّه يُعاني من قلَّة عدد الزيارات نتيجة نقص عدد الطواقم الطبية. أسعار الخدمات وبيَّن د. الطبيقي أنَّ بعض الأُسر تلجأ لتوفير ممرضين خاصين يتولّون تقديم الرعاية الصحية لمرضاهم المسنين أو الذين يعانون من إعاقة دائمة، مُضيفاً أنَّ هذا التوجه يصطدم أيضاً بصعوبة الحصول على تأشيرات للممرضين، وفي المقابل نجد أيضاً قلَّة في عدد المستشفيات الخاصة التي توفر خدمات النقاهة والتأهيل للمرضى، إلى جانب المبالغة في أسعار الخدمات، داعياً الموسرين والتجار ومؤسسات القطاع الخاص في الوطن إلى إنشاء مشافٍ تأهيلية للمسنين وذوي الاحتياجات الخاصة. وأشار إلى أنَّ كثيرا من الكيانات التجارية، كالبنوك –مثلاً- تُحقِّق أرباحاً كبيرة من أموال المواطنين المُودعة لديها، متعجِّباً من عدم مشاركتها في مثل هذه الأعمال الخيرية، مُشدِّداً على أهمية دعم برامج الزيارات المنزلية التمريضية والطبية بتبني العمل التطوعي من الطاقم الطبي والتمريضي، الذي يعمل في قطاع الصحة، إلى جانب امتداد تلك الثقافة والعمل الخيري، خاصةً لدى الجيل الجديد. خدمات تمريضية ورأى علي الحربي -رئيس تنفيذي للشركة الدولية للموارد البشرية، وأحد العاملين في قطاع التوظيف الصحي- أنَّ تبنِّي رجال الأعمال والموسرون والقائمون على الأوقاف عملية إنشاء دور لرعاية المرضى الذين لا تُقدَّم لهم خدمات علاجية بل خدمات تمريضية من شأنه أن يُحقَّق العديد من الأهداف الإيجابية، مُضيفاً أنَّ أثرها سيمتد إلى جوانب أخرى، إلى جانب تخفيف العبء عن مستشفيات المؤسسات الحكومية، وكذلك توفير عدد كبير من الأسرة. وأوضح أنَّ مدن المملكة ذات الكثافة السكَّانية العالية لا تقل عن (20) مدينة، مُضيفاً: "لنا أن نتخيل لو قام هؤلاء الموسرون ببناء أكثر من مبنى، خاصةً في المدن الكبرى، ووصل العدد إلى (30) مقرا بسعة (200) سرير في كل مبنى، لتوفر لنا ستة آلاف سرير، ولأمكن توظيف ما لا يقل عن (1000) شاب من الباحثين عن العمل في القطاع الصحي في مختلف التخصصات، ومتى ما تطورت الفكرة وأصبح لها أوقاف تُصرف عليها أو تبنَّتها المؤسسات والقطاعات التجارية والصناعية، فإنَّ ذلك سيحقق فوائد عدَّة لأبناء الوطن". المسؤولية المجتمعية واقترح أن يتبنى مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية قرار إلزام الشركات الكبرى والبنوك والمصانع باستقطاع مبالغ في حدود (2 – 5%) من ميزانيات الدعاية والإعلان لتُوجَّه لبرامج المسؤولية المجتمعية، ومنها بناء دور للنقاهة للتخفيف عن المستشفيات الحكومية، لافتاً إلى أنَّ هذا الدور ستدعم ملف التوطين لتلك الشركات، داعياً إلى مشاركة فاعلة من صندوق الموارد البشرية في دعم توطين وظائف تلك الدور، إلى جانب منح مزايا تشجيعية لتلك الشركات المُشغِّلة لتلك الدور. نظام الوقف وقال د. محمد الغامدي -أستاذ الدراسات العليا بكلية الشريعة بجامعة أم القرى-: "إنَّنا اليوم بحاجة إلى تنويع العمل الخيري، بل والابتكار فيه، حتى يشمل جميع الجوانب الحياتية والحاجات المادية والمعنوية"، مُضيفاً أنَّ أصحاب الأموال وذوي اليسر والسعة عبادتهم الأولى -بعد أداء الفرائض- هي في الإنفاق في سبيل الله في أوجه الخير الكثيرة، بل إنَّ الإنفاق في سبيل الله قد يكون مقدَّماً أحياناً على نوافل العبادات". ولفت إلى أنَّ نظام الوقف يُعدُّ من أجلّ الجوانب المشرقة في النظام الإسلامي، مُضيفاً أنَّ الوقف كفيلٌ بإيجاد الحل لجميع المشكلات، موضحاً أنَّ كثير من الأثرياء والموسرين لم تنتشر فيهم ثقافة الوقف، كما أنَّهم لم يعتمدوه أساساً في بذلهم ومعوناتهم، مُبيِّناً أنَّ باحثاً يهودياً عكف على نظام الوقف في الإسلام وأصدر فيه كتاباً قال فيه: "إنَّه نظام مهم جداً، ولا يوجد مثله في العالم، فهو يسمح بتداول الثروة". مخزون إستراتيجي وأضاف د. الغامدي أنَّ هذا الباحث يتعجب من تصفية هذا النظام الإسلامي المتميز بأيدي المسلمين أنفسهم، مؤكِّداً على أنَّ الوقف هو أهم دعامة للقضاء على المشكلات المالية والصحية والاجتماعية للأمة، موضحاً أنَّ الأوقاف مخزون إستراتيجي للأمة في الأزمات والطوارئ، كما أنَّها تربية للمجتمع على القيام بأكثر حاجاته وتحقيق كفايته من العيش الكريم، وبالأوقاف تملك الأمة قرارها، ولا يبتزها أعداؤها في طعامها وحاجاتها الضرورية. وأكَّد على أنَّ الوقف أيضاً سبب لترسيخ الاستقرار في حال اضطراب السياسة والاقتصاد؛ لأنَّه بكثرة الأوقاف ينتقل الإنفاق الضروري على الناس في حال الأزمات والاضطرابات من بيت المال إلى الأوقاف، مُضيفاً أنَّ منافع الوقف على الفرد والجماعة وعلى الواقف والموقوف عليه لا تكاد تحصى من كثرتها؛ لذا فإنَّه استحق أن يكون أفضل الصدقات وأنفعها، موضحاً أنَّه ما من أحد من الصحابة -رضي الله عنهم- هو ذو مقدرة إلاَّ أوقف شيئاً من ماله. وبيَّن أنَّ المسلمين الأوائل تفنَّنوا في تخصيص أوقافهم وفي توجيهها إلى أوجه متعددة من أبواب البر والإحسان، حتى بلغت ما لا يخطر على بال، فإلى جانب أوقاف المساجد والأوقاف المخصصة لطلاب العلم وإيواء المعوقين والمرضى، أُنشئت أوقافٌ فيها من الغرابة الشيء الكثير، لافتاً إلى عزوف كثير من المسلمين اليوم عن الأوقاف، كما أنَّ بعض من فَطِنَ لها قَصَرَ مفهومها على أبواب محددة، مثل: بناء المساجد، مع أنَّ مصارف الأوقاف أشمل من هذا بكثير. معايير عالمية وأشار د. طريف الأعمى -وكيل وزارة الصحة للخدمات العلاجية- إلى أنَّ ما يزيد عن (1000) مريض من المرضى طويلي الإقامة يتلقَّون الرعاية في المستشفيات الحكومية في الرياض ومكة المكرمة والمنطقة الشرقية ومنطقة عسيروجدة، فيما تستأجر وزارة الصحة الخدمة ل(250) مريضا في مستشفيات القطاع الخاص، لافتاً إلى إمكانية تعرُّض هؤلاء المرضى للالتهابات والجروح والاضطرابات النفسية والذهنية، نتيجة إقامة المرضى المستقرين نسبياً في أسرَّة المستشفيات المُعدَّة لاستقبال الحالات النشطة والحرجة. وأوضح أنَّ وزارة الصحة أقرَّت أنَّ إشغال تلك الأسرَّة يطيل فترة انتظار المرضى الآخرين، إلى جانب ارتفاع تكلفة شغل الأسرَّة في المستشفيات ثلاثة أضعاف ما يحتاجه سرير الرعاية الممتدة تقريباً، مؤيداً فكرة بناء مشافٍ على مستوى عال ومعايير عالمية لاستقبال المرضى طويلي الإقامة، مؤكداً على أنَّ ذلك سيكون له دور كبير في تحسين خدمة وصحة هؤلاء المرضى، إلى جانب التخفيف من معاناتهم وأسرهم، وكذلك إتاحة الفرصة للمرضى المحتاجين إلى الأسرَّة في المستشفيات، إضافةً إلى تخفيف الضغط والتكاليف عن المستشفيات الحكومية بشكلٍ عام، وليس المستشفيات التابعة لوزارة الصحة فحسب. د. محمد الغامدي د. منصورالطبيقي علي الحربي دور النقاهة الحل الأمثل للمرضى طويلي الإقامة المستشفيات تعاني من إشغال الأسرّة المستمر