المفارقة هي أن الولاياتالمتحدةالأمريكية اليوم غير معنية حقيقة بمساعدة المنطقة على التطور الديمقراطي وهي لذلك تقدم صورة شائهة للديمقراطية المزيفة المفرغة من أي مضمون وطني أو أخلاقي أو إنساني ربطت الولاياتالمتحدةالأمريكية بين ما سمته حربها الوقائية ضد الوطن العربي والعالم الإسلامي وبين مشروعها لتصدير الوصفة الأمريكية بتطبيق الديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط، وأعلنت أنها ماضية في مخططها هذا عبر كل الممارسات والوسائل بما في ذلك الغزو العسكري والاحتلال أو الضغوط على الدول العربية سياسياً واقتصادياً بالإضافة إلى محاولات اختراق المجتمعات وتشجيع القوى الانتهازية والطفيلية المرتبطة مباشرة بأمريكا أو المتأثرة والمخدوعة بدعوات الإصلاح والتغيير والتطوير التي هي ليست أكثر من شعارات تذكر بالشعارات التي كان يبشر بها اليسار العالمي بعد الحرب العالمية الثانية وبروز المعسكر الاشتراكي كقوة عظمى بقيادة الاتحاد السوفيتي وذلك بالدعوة إلى تصدير الثورة والتغيير وتطبيق الديمقراطية الاجتماعية وصولاً إلى امتلاك البروليتاريا للسلطة ووضع قرار الحكم والقيادة والإدارة بين الطبقة العاملة التي تمثل الأكثرية. ولم يكن متاحاً في ظل النظام العالمي القديم الذي برز بعد الحرب العالمية الثانية والتوافق على قطبية ثنائية أن يكون في مقدور المعسكر السوفيتي أن يخوض حروباً عسكرية لنشر الشيوعية في منطقتنا تحديداً!! وكما هو معروف فقد تبدد الحلم السوفيتي بتصدير الثورة أو فرضها وإنهاء المعسكر الاشتراكي من داخله دون أن ننكر أنه كان عرضة للضغوط ولأشكال متعددة من التآمر، وما يعنينا هو التأكيد على فشل تصدير الثورة لمنطقتنا ابتداءً وانتهاءً! والأهم أن نزعة الأطماع وتوجهات التوسع انعكست لتدمر المعسكر الاشتراكي!! أما في الوضع الراهن فإن المعروف أنه لا يوجد رفض أو مقاومة للأخذ تدريجياً بالأسلوب الغربي في التطور الديمقراطي الذي هو صيرورة طويلة المدى ومتنامية تأخذ في الحسبان خصوصية المجتمعات التراثية والثقافية والفكرية.. والأهم هو التأكد أن الديمقراطية لا يمكن تحقيقها إلا من خلال تفاعل داخلي وقناعات شعبية وتدرج في الممارسة الواقعية على الأرض وفق الإرادة الوطنية. ومن هنا فإن قبول فكرة التطور الديمقراطي الطبيعي هو قبول عام، بينما هناك استنكار ورفض لفرض الديمقراطية بالقوة أو الإكراه أو التآمر أو التهديد أو الابتزاز مع ما تحمله هذه الروح العدائية التي ينطوي عليها التبشير بالديمقراطية من نوايا خبيثة ومن محاولات لنشر الفوضى والإرباك والقلق وإضعاف المجتمعات القائمة والسعي لتفكيكها لإعادة ترتيبها بدعوى إعادة صياغتها منفردة وإعادة تشكيل المنطقة وفق المشروع الأمريكي الامبراطوري للهيمنة على العالم انطلاقاً من السيطرة على هذه المنطقة. المفارقة هي أن الولاياتالمتحدةالأمريكية اليوم غير معنية حقيقة بمساعدة المنطقة على التطور الديمقراطي وهي لذلك تقدم صورة شائهة للديمقراطية المزيفة المفرغة من أي مضمون وطني أو أخلاقي أو إنساني، وتختزل هذه الديمقراطية بكل ما فيها من مكونات وأبعاد في صناديق الاقتراع، لكن الأسوأ هو أن أمريكا تتجاهل كل متطلبات تحقيق الديمقراطية في هذا الجزء من العالم حيث لا يمكن إنجاح التجربة الديمقراطية بمعزل عن السلام الحقيقي والشامل والعادل في المنطقة، كما لا يمكن تطور الديمقراطية بمعزل عن التنمية ولا يمكن كذلك أن تزدهر بمنأى عن الأمن والاستقرار، وإذا علمنا أن مفاتيح السلام هي بيد أمريكا، وأنها وحدها القادرة على دعم مشروع للتنمية في المنطقة شبيه بمشروع مارشال بعد الحرب العالمية الثانية في أوروبا.. وأنها هي التي تتسبب في اهتزاز الأمن وزعزعة الاستقرار في المنطقة فإن ذلك يعني بالضرورة أنها تسد كل المنافذ في وجه التطور الديمقراطي في المنطقة. أما ذروة المأساة التي تترتب على اختزال أمريكا للديمقراطية في صناديق الاقتراع فهي ما ينطوي عليه هذا التوجه من خداع وتضليل يتلخص بالعمل على فصل حقوق الإنسان عن حقوق الأوطان، ولذلك فإن الناس في أرجاء الوطن العربي الذين تستهويهم فكرة الديمقراطية ويعجبون بتطور التجربة الديمقراطية الغربية ولا يعارضونها كنموذج للحياة يدركون في الوقت نفسه أن بريق الديمقراطية الذي يخطف الأبصار هو بريق خادع وكل الشعارات والدعايات والإدعاءات بأن كل مشكلات المنطقة تحل عبر تطبيق الديمقراطية هو كلام حق يراد به باطل، وأن كل هذا الترهيب السياسي والإعلامي للتبشير بالديمقراطية يستخدم لصرف الأنظار عن حقائق أساسية تتصل بالمصير الإنساني والوطني وهي بدهيات وأوليات يستحيل تجاوزها، وتشكل القاعدة التي يرتكز عليها شكل النظام السياسي في أي بلد، ولا نبالغ إذا قلنا إن أي مساس بالحرية والسيادة والاستقلال الوطني هو أبرز تحديات الحياة وأول شروط العمل العام والممارسة السياسية، وهو ركيزة الديمقراطية وإطارها وضمانتها. ومن المؤكد أن محاولات فرض أية توجهات من الخارج يثير الشكوك ويولد الحساسيات ويستفز الشعوب وفي الحالة العربية الراهنة فإن الحذر يزداد والمخاوف تتضاعف إذا ما ترافق مشروع تصدير الديمقراطية وفرضها مع روح عدائية شريرة تبدأ بالغزو العسكري ولا تنتهي بالضغوط والتهديد والممارسات المختلفة، كل ذلك ونحن مطالبون بتفهمه وتجاوزه وإغماض الأعين عنه عبر إقناعنا بأن التطلع للديمقراطية هو الأمر الوحيد المتاح أمامنا. ومن سوء حظ أمريكا أن جريمة اغتصاب فلسطين كانت ولاتزال غصة لا تزول، وحسرة لا تخف، ومأساة راسخة في العقل والوجدان العربي، ولذلك لا يمكن أن يقتنع الإنسان الفلسطيني والعربي بأن قضية فلسطين ليست هي مشكلته وأن مشكلته هي أن ينعم بممارسة الانتخابات عبر صناديق الاقتراع وأن توفر له إسرائيل فرصة لإيجاد انتخابات بلدية وتشريعية لإدارة شؤون حياته اليومية في ظل احتلال لا يعطيه الحق بأن يقاوم أو يرفض ليل الاحتلال والاستعباد وحرمانه من أرضه وإنكار حقه في تقرير مصيره، وهكذا يصبح التضليل المتمثل في اختزال الحرية والديمقراطية بممارسة لعبة الانتخابات كملهاة هو البديل عن حرية الوطن وسيادته واستقلاله وهي البديل عن أبسط حقوق الإنسان. وما يحدث في فلسطين يتشابه مع ما يحدث في العراق فالولاياتالمتحدةالأمريكية التي سقطت كل حججها لاحتلال العراق وفي مقدمتها مزاعم امتلاك العراق لأسلحة دمار شامل، وعلاقة العراق بتنظيمات التطرف الديني بالإضافة إلى اتهامه بأنه كان يمتلك قوة عسكرية تشكل خطراً على جيرانه وعلى كل دول المنطقة وعندما أقرت الإدارة الأمريكية أن كل هذه الحجج كانت أكاذيب وتلفيقات سقطت كلها باعتراف أمريكا التي تكتفي هذه الأيام بالتشبث بالإدعاء بأنها احتلت العراق لتطبيق الديمقراطية فيه ولتخلق منه نموذجاً لابد أن يعمم على كل بلدان المنطقة. ومن هنا يمكن القول إن محاولات إشغال الشعب العراقي في التنافس والتطاحن عبر صناديق الاقتراع هو محاولة لصرف الأنظار عن كارثة الاحتلال الجائر الجاثم على صدر العراق.. والمطلوب أن ينسى الشعب العراقي أنه محتل وأن يهتم فقط بالصراع الداخلي والتنافس المحتدم عبر صناديق الاقتراع وهكذا تصبح ممارسة الانتخابات وإجراء الاستفتاءات بديلاً عن إرادة الحياة وجذوة الحرية والكرامة في ضمير الشعب العراقي والشعب الفلسطيني التي لا تنفصل عن تحرير الأرض وتحرير الإنسان على هذه الأرض كشرط مصيري وإنساني وأخلاقي لإرادة الحياة ولإعلاء قيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.