حين ننظر إلى اقتصاديات العالم المتقدم، نرى بوضوح أن الشركات العملاقة هي التي بنت تلك الاقتصاديات لبنة لبنة، وهي التي توفر فرص العمل الكثيرة لأبنائه، وتساهم بالنصيب الوافر في ناتجه القومي، وتفجر الطاقات الإبداعية في مواطنيه رجالاً ونساء، وتقدم الخدمات الراقية والمنافسة داخل بلدانها وعبر العالم كله، وتجلب العملات الصعبة لأوطانها، وتساهم في توازن الميزان التجاري، وميزان المدفوعات، وتجذب الرساميل الضخمة من شتى أصقاع العالم.. بل إن تلك الشركات الضخمة، والتي بعضها عابرة للقارات، هي جزء أساسي من مجد أوطانها اقتصادياً وسياسياً، ولها دور فعال في القرارات السياسية والاقتصادية، وفي تمويل ميزانيات الدول بالضرائب، غير مساهماتها الاجتماعية والثقافية.. أما البحث العلمي فهو يقوم على اكتاف تلك الشركات الكبرى، فهي تتبناه وتهتم به كثيراً وتعتبره ركيزة أساسية في صلب عملها، وتخصص له الميزانيات الكبيرة، وتوظف له العقول المبدعة، بما فيها العقول المهاجرة، وتوفر للعلماء الباحثين الأجواء والظروف التي تجعلهم متفرغين للبحث العلمي، خالصين له، مولعين له، فتصرف لهم المرتبات المجزية، وتوفر لهم المساكن اللائقة، والمواصلات لهم ولأولادهم، لأنها تعلم أن وقتهم وعطاءهم أثمن من أن يستهلك في شؤون الحياة اليومية. فوق هذا توفر لهم أحدث المعامل، وما يطلبون من مساعدين ومصاريف لاستكمال البحوث، الصبر عليهم صبراً جميلاً طويلاً حتى يستكملوا أبحاثهم دون استعجال أو تبرم، وعلى سبيل المثال فقد ظلت شركة باير الألمانية تصرف على عالم متفرغ وعدد من معاونيه أكثر من ثلاثين عاماً متواصلة ليتسنى له اكتشاف علاج (الاسبرين) حتى توصل هذا العالم المُفَرَّغ إلى هذا الاختراع العظيم بعد ثلاثين سنة لا عمل له ولمساعديه غيره، وحين تم اكتشاف (الاسبرين) بشكله الحالي كان معجزة القرن العشرين في العلاج، ولا يزال، والعلماء لا يزالون يكتشفون من مزاياه المزيد عاماً بعد عام، وقد غطت الشركة الصناعية جميع ما صرفته على البحث العلمي الذي أدى إلى اختراع الاسبرين، غطت جميع ما صرفته في ثلاثين عاماً خلال أسبوع واحد من المبيعات، ولا يزال الاسبرين يدر على الشركة الملايين كل عام رغم انتهاء براءة الاختراع في زمن طويل، والأهم أنه اختراع ساعد في سعادة البشرية كلها بإذن الله، وفتح آفاقاً جديدة، وأعطى سمعة رائعة وثقة للشركة الرائدة.. وهكذا تفعل الأبحاث العلمية في الشركات العملاقة باستمرار، فليس الاسبرين هنا إلا مثال، انظر ماذا قدمته (فورد) و(بوينج) و(ميكروسوفت) و(فايزر) وغيرها الكثير من اختراعات مذهلة نافعة للبشرية كلها، فوق نفعها الأساسي لبلدانها من بناء اقتصادي متين مستمر، إلى سمعة تجارية راقية، والأهم من هذا فتح آفاق واسعة لتواصل التقدم العلمي والتقني على مستوى البشرية كافة، وتقديم الأرقام القياسية في سباق المسافات الطويلة لتطوير الحضارة المعاصرة ودفعها إلى الإمام، وتحسين معيشة الإنسان في أنحاء الكرة الأرضية، وفتح باب المنافسة والأمل في الانضمام لذلك السباق الفعال الذي هدفه إسعاد الإنسان ودفع الحياة إلى الأمام، والله عز وجل يقول: {يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان} سورة الرحمن الآية 33. والسلطان هو العلم كما يقول المفسرون.. ونحن العرب والمسلمين أولى بالاهتمام بالعلم بكل فروعه من غيرنا، فإن ديننا يحضنا عليه، وإن تاريخنا - حين كانت حضارتنا تسود العالم - زاخر بالاختراعات العلمية الأصيلة التي خدمت البشرية جيلاً بعد جيل، واستفادت من تراكمها الحضارة الغربية الحديثة، وأضافت إليها وابتكرت من الجديد ما لا يخطر على بال، بينما تقاعس العرب والمسلمون في البحث العلمي وزهدوا فيه - لأنه يحتاج إلى الصبر الطويل والانفاق الكثير وحضانة الشركات الكبرى التي تتعاون مع الجامعات ومراكز البحوث، وإذا كانت الشركات الكبرى - أصلاً - نادرة في العالم العربي والإسلامي فلا عجب أن يكون البحث العلمي لدينا هزيلاً وتوطين التقنية ضعيفاً وابتكارنا شبه معدوم. ٭ ٭ ٭ إن الشركات العملاقة التي بنت الاقتصاد الأمريكي والأوروبي والياباني هي (شركات مساهمة) في معظمها الساحق، إن لم يكن كلها في العصر الحديث فبناء اقتصاد متين قادر على الاستمرار والنمو والابتكار يحتاج إلى رؤوس أموال كبيرة جداً، وعمل جماعي مشترك تديره أفضل العقول الإدارية والاقتصادية، وكل هذا لا يتحقق في عصرنا إلا بوجود الشركات المساهمة العملاقة التي تجمع المال إلى المال والخبرات إلى بعضها وتكوِّن صروحاً اقتصادية شامخة يشار لها بالبنان وتكون مفخرة لأوطانها ومصدراً دائماً ونامياً لايراداتها فوق ما توفره من فرص عمل كثيرة جداً، وما توطنه من التقنية، وما تجذب من العقول، وما تساهم به في بناء الإنسان المنتج المؤهل. ٭ ٭ ٭ وفي هذه الطفرة الثانية التي تمر بها المملكة العربية السعودية الآن - وهي أقوى من الطفرة الأولى وأقل استحقاقات وأعباء - أمامنا في خضم هذه الطفرة الذهبية فرصة تاريخية لإنشاء (شركات مساهمة عملاقة) تكون هي البديل السليم والحقيقي لايرادات النفط الناضبة، وهي التحول الكبير الذي يغير اقتصاد المملكة من (اقتصاد ريعي يعتمد على بيع النفط المستخرج من الأرض حتى ينضب) إلى (اقتصاد انتاجي مستمر وينمو) وذلك لعدة عوامل أهمها: 1 - أن الشركات المساهمة العملاقة مستمرة في النمو والإنتاج وتوفير فرص العمل وجلب العملات الصعبة من الخارج مع تقليل النازح منها، لأن الشركات المساهمة لا تموت بموت مؤسسيها (كما الشركات العائلية مثلاً). 2 - أن طبيعة العصر الحديث واقتصادياته الضخمة وعولمة التجارة وانضمام المملكة لمنظمة التجارة العالمية، كل هذا الانفتاح في عالم شديد التنافس والتعقيد، لن يصمد فيه - فضلاً عن المنافسة - إلا الشركات المساهمة العملاقة التي رؤوس أموالها يوازي المتوسط العالمي لمثيلاتها، بحيث تكون جزءاً فاعلاً في معركة العولمة. 3 - لا يمكن توفير فرص عمل مستمر وقابلة للتوالد إلا بوجود هذه الشركات المساهمة الكبيرة لأن طبيعة عملها هو النمو بمقدار النمو السكاني على الأقل، ولأن توجيهها للسعودة تحت السيطرة أكثر من الشركات العائلية والمؤسسات الفردية.. 4 - أن فائض رأس المال في المملكة بلغ مداه الآن وهو متعطش لشركات مساهمة كبرى ذات جدوى، بدل النزوح للدول المجاورة وغير المجاورة، أو النفخ في الأسهم القليلة المطروحة في البورصة حدّ الانفجار، فما يحدث من مضاربات محمومة على أسهمنا المحدودة لا يضيف فرص عمل، ولا يضيف مزيداً من الإنتاج، بل العكس هو الصحيح، زهَّد الناس في العمل الجاد والإنتاج مقارنة بالربح السريع الوفير في البورصة، وزهَّد كثيراً من الشركات الموجودة في سوق الأسهم في التوسع الإنتاجي في اختصاصها، فأخذت هذه الأخرى تضارب بأموالها في البورصة، كل شركة تشتري في أسهم الشركة الأخرى!! ما الفائدة؟!.. عملية (تفحيط) سوق الأسهم المحلية الآن (تفحط) في مكانها والتفحيط لا يوصل إلى أي هدف فوق أنه خطير، السير إلى الأمام في شركات جديدة تضيف المزيد من فرص العمل والخدمة وتخفض التكاليف هو السبيل السليم، وهو لا يتوفر إلا بطرح شركات مساهمة كبرى تبقى صروحاً شامخة تتدفق بالعطاء حين تقل الموارد وتنتهي لعبة المضاربة (التفحيط الغريب).. إن الشركات القائمة ينبغي أن توجه لاستثمار سيولتها في التوسع في نشاطها وليس المضاربة في سوق الأسهم! 5 - الشركات المساهمة الكبرى هي التي سوف توطن التقنية داخل المملكة، واشتراكها مع شركات أجنبية عريقة في التقنية مكسب علمي واقتصادي وسياسي، فحين يكون للعالم موارد ومصالح مجدية في المملكة يزداد حرص العالم على استقرار المملكة وأمنها.. هذه سنة الحياة.. إن التقنية لا يمكن توطينها بدراسة نظرية، ولا يمكن نقلها جاهزة، لابد من شركات مساهمة كبيرة تحتضنها داخل المملكة وتشارك معها شركات متقدمة تقنياً وتجعل السعوديين العاملين لديها يعملون مع هؤلاء الخبراء ويتدربون ويتأهلون على الطبيعة وفي بلدهم، والتقنية لا تنقل ولا تشترى بل توطن بالصبر والتعلم والتدرب وسخاء الانفاق على البحث العلمي وقوة التواصل بين الشركات الكبيرة والجامعات ومراكز البحوث ومدينة الملك عبدالعزيز للتقنية والعلوم.. وبدون توطين التقنية سنظل عبئاً على العالم، وسيظل اقتصادنا (ريعياً) قابلاً للتوقف لا سمح الله.. 6 - الشركات المساهمة الكبيرة جداً هي جامعات علمية في البحوث وفي التدريب والتأهيل وبناء الإنسان المنتج وتأصيل قيم العمل ودعم العمل الجماعي وخدمة المجتمع بشكل عام. ٭ ٭ ٭ إن لدينا في المملكة العربية السعودية شركة واحدة عملاقة حقاً على مستوى العالم تقريباً، وهي شركة (سابك) طبعاً.. تجوب البواخر بحار الكرة الأرضية بصادراتها.. وتعد بين شركات العالم الكبرى.. وتمد الاقتصاد الوطني بعشرات المليارات كل عام.. الأرباح التي تقارب العشرين مليار ريال ليست إلا جزءاً من ذلك.. مبيعاتها التي تناهز السبعين ملياراً كلها مكسب للاقتصاد الوطني، رواتب تصرف في الداخل.. خامات تشترى من الدولة والقطاع الخاص.. أبحاث علمية متقدمة.. توطين للتقنية.. إشعار بالثقة.. رشاد في الإفادة من الخامات الموجودة وأولها الغاز الذي كان قديماً على شكل حرائق نراها بأعيننا حين نسافر من الرياض إلى المنطقة الشرقية.. سابك عملاق اقتصادي.. ولكنها وحدها لا تكفي في أكبر بلد في العالم في تصدير النفط.. لا بد من مصارف عملاقة جداً.. ولا بد أن تكبر أخوات سابك في رؤوس أموالها وإنتاجها (سافكو، التصنيع الوطنية، المجموعة السعودية للاستثمار، الصحراء) ونحوها من الشركات التي تستفيد من الميزة النسبية للقيم، ينبغي أيضاً أن تستفيد من الوفرة النقدية التي حار الناس الآن كيف يستثمرونها، برفع رؤوس أموالها بشكل كبير وطرح معظمه للاكتتاب العام بعلاوة إصدار مقبولة، وكذلك وهو الأهم تأسيس شركات جديدة في قطاع البتروكيمات (وفي الجيل الثاني من منتجات سابك مما هو مجد صناعته محلياً» بحيث تتكامل هذه الصناعة نسبياً.. ٭ ٭ ٭ إن (الثروة الورقية) لا يُعتد بها كثيراً ولا يعتمد عليها، لابد من استثمارها في شركات مساهمة جديدة كبيرة في قطاع الصناعة والمصارف والخدمات والقطاع الصحي والاسكان والنقل البحري (خاصة نقل النفط) بحيث لا نأمن من ضياعها واستهلاكها فقط، بل نستثمرها بشكل يحولها إلى صروح اقتصادية شامخة دائمة العطاء والنمو وتوليد فرص العمل ودعم الناتج المحلي (وتوجيه الموارد المحدودة للقطاعات المنتجة) هذا هو صلب مهمة سوق الأوراق المالية، والموارد المالية تظل محدودة مهما تكاثرت فترة ما.. (لا تغتر بمال ولو كثر) مثل عربي صادق.. ثم إن المال ينبغي أن يستثمر برشد لكي يثمر ويعطي.. ولا أرى خيراً ولا أفضل من فتح شركات مساهمة كبيرة جداً مدروسة الجدوى وبمجاراة عصر السرعة وزخم الطفرة فبطء المبادرة هنا يجعل الأموال تهاجر أو تضارب أو تجنح إلى الاستهلاك المحموم فتذهب مع الريح. ٭ كاتب