"هناك شيء مسني كشهاب صاعق وأنا في الرابعة عشرة، شيء هو خليط من التهويم والحلم، ومن السحر البدائي الشبيه بالفطرة وأغاني الطفولة، حين مسني هذا الشيء الفتان استسلمت له دون أن أعي سره، أو أسبر غوره، هذا الشيء الذي خلخل كياني الغض، لا أعرف عن عالمه الكثير، ولا أفقه شيئاً من ألقه المنثور في الدرر الكلاسيكية التي ترقى إلى سلفنا الأول امرئ القيس ومن تبعه من الشعراء الجاهليين.." (هاشم شفيق) *** ثمة في حياة الفرد الذي خضع لحالة التأمل فيما حوله من الكون والطبيعة والبشر، وأخذ في تحليل أو محاولة الوصول إلى نتيجة غائبة عن ذهنه ولكنه يمعن في البحث عن الإجابة، فيذهب إلى الوسائل المعرفية ليتزود بالمعارف المختلفة مستعيناً بها في البحث عن إجابة لتساؤلاته التي تتسع كلما أمعن في العمل على ملاحقة السبل التي يرى أنها كفيلة بإيصاله إلى الغاية المراد إدراكها، فكلما اتسع الإطار المعرفي كثرت الأسئلة وصعبت الإجابة، فيكون اللجوء إلى حفر جادة واحدة قد تؤدي إلى جواب واحد ربما يكون مريحاً ومستحباً فيتمسك به لكي يعمل به بعد تفحصه والقناعة أنه هو ما أشبع رغبته المتأججة منذ دخوله في عالم التأمل، ومن هنا يكون الشاعر هو المثال الذي يندرج مرتدياً وشاح هذه الصورة العاكسة لحالة النفس التواقة للعطاء بغية إثبات الذات والأنا كبرهان على الوجود، كما (أنا أبدع إذاً أنا موجود) مما يجعل النفس الشاعرة تبحث في دأب عن شيء جديد يشد ويشبع متطلبات الذات ولو كانت مكدسة غروراً، فالشعراء دائماً يوصفون بالغرور، وهم يمثلون أنهم في دائرة الغرور، غير أن العكس هو الصحيح لكون الشاعر الحق هو الذي يسبر أغوار النفس مفتشاً في أعماقها عن آلام/ آمال، فهو مهموم ولا وقت عنده لممارسة الغرور لأنه في أعماقة مشاركاً الجميع من بني جنسة ومتحملاً كل همومهم حسب قدراته الاستيعابية، فيجسدها ممزوجة بحاسسته وأناه المتكئة على أحوال الآخرين المعايشين له، فهو ينظر إلى المشاركة الوجدانية كواجب، فيعمل على أن يمارس عملاً ما يحتمه الواجب تجاه الملاصقين/ الأبعدين من بني البشر، فالشعر هو مشاعر مشاعة لا مكان لها في أمة دون أخرى، فالإنسان هو الإنسان وإن اختلفت الهويات لغوياً، واجتماعياً، ومناخياً، وموقعياً، فالإنسان هو كائن بشري يريد أن يعيش حياته المقدرة له في أمان واطمئنان، وأن يكون سعيداً، وهيهات أن يكون ما يفكر فيه الإنسان بمثالية الحياة، فالحياة متحركة دؤوبة التغير إنْ طبيعياً أو بفعل الإنسان نفسه حيث الظروف تحتم أحياناً وكثيراً ما تنحو تجاه العكس ليس بفعلها ولكن بفعل الكائن البشري الذي يبحث عن الكمال لنفسه فيكون الصدام بين أناه، وأنا المقابل الذي يريد كذلك كما يريد هو، فيكون الصراع من أجل البقاء والاستحواذ على ما يريده، وهناك من يريد أيضاً، ولهذا فالصراع موجود من بدء الخليقة إلى اليوم ومدى الحياة، فديدن الحياة أخذ وعطاء، وأحياناً يكون أخذاً وأخذاً، أو عطاء وعطاء، والشاعر سيكون في صف أحدهما لا إرادياً بيد أنه يدعي الحياد ولكن من منظوره هو وحسب مستطيل المساحة التي يحرك فيها ومايرى أنه الجواب على أسئلته التأملية، فهو شقي بذاته، والآخرين، وهناك قناعة يستولي عليها عندما تتطابق عطاءاته مع ما تتوق إليه النفس البشرية جمعاء، فبصوره الملتقطة من حياة الناس، وقدرته على رسم الصورة الحقيقية والقريبة من هموم البشر بأسلوب مباشر وغير مراوغ، حيث يجد الكل صورته فيما رسمه بكلماته النافذة للنفوس، والمخترقة للمجتمعات، والمقبولة عندهم وكأنهم من صنعها أو صاغها. *(نبض) للشاعر الكبير: محمد مهدي الجواهري حَيّيتُ سفحَكِ عن بُعْدٍ فحَيِّيني يا دجلةَ الخيرِ، يا أُمَّ البستاتينِ حييتُ سفحَك ظمآناً ألوذُ به لوذَ الحمائمِ بين الماءِ والطين يا دجلةَ الخيرِ يا نبعاً أفارقُهُ على الكراهةِ بين الحِينِ والحين إنِّي وردتُ عُيونَ الماءِ صافيةَ نَبْعاً فنبعاً فما كانت لتَرْويني وأنتَ يا قارَباً تَلْوي الرياحُ بهِ ليَّ النسائمِ أطرافَ الأفانين ودِدتُ ذاك الشِراعَ الرخص لو كفني يُحاكُ منه غَداةَ البَين يَطويني