كل الذين كتبوا عن السيرة الذاتية للنفاق والمنافقين تمنوا بصدق أن يكتشفوا تلك الدهاليز المخيفة التي يتنصل فيها الإنسان من القيم والمثل والوضوح والنقاء والحقيقية، ثم يتفق مع ذاته على أن يحترف وجهتين متناقضتين في التعامل مع غيره، ثم يوقع عهداً بأن يُظْهِر غير ما يبطن حتى لو لم يضطر إلى ذلك أو يجبر عليه !! وسواءٌ أدرك - وغالباً ما يدرك - خطورة الإجرام الذي يرتكبه أو لم يدرك فإن الأمر الذي لا يختلف بشأنه اثنان هو أن النفاق ذنب لا يغفر إلا بالتوبة النصوح مثله مثل كثير من الكبائر التي تهتز من هولها القيم كافتها بل إنه يفوق كثيراً منها - أي من كبائر الذنوب - في البشاعة والشناعة. ولعل الدليل الواضح الناصع الذي لا يقبل المفاصلة أن الكتاب العظيم المبارك المنزل من الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور قد خص النفاق والمنافقين بسورة من أعظم السور التي تكشف للمؤمنين الصادقين تلك النماذج المتردية الساقطة الملعونة في الدنيا والآخرة، في الوقت الذي تتظاهر فيه أنها من جملة النبلاء المتشجرين بالولاء من حول النبي - صلى الله عليه وسلم - ودعوته وجهاده.. ولست أعرف ولا أعلم إفصاحاً وتعبيراً أشد وأنكى وأقسى وأكثر إرعاباً وزلزلةً من هذه الآية (هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون.)، وبرغم هذا الإرعاب والتخويف، وبرغم الوعيد الشديد، وبرغم المصير المعتم والنهاية المظلمة في قعر جهنم استمرت وتواترت سيرة النفاق في سلوكيات بني آدم كغيرها من صفات التردي والتفاهة والغدر والكفر والخيانة والخداع والغش والكذب والتزوير والتدليس حتى أمسى الأنموذج الإنساني لا يختلف أبداً عن الأبالسة والشياطين، بل إنه في هذه الجريمة تحديداً تفوق وأغرق حتى صار قريناً مماثلاً فقيل بسهولة متناهية: (شياطين الجن والإنس). ولذلك - أي لبشاعة هذه الجريمة ولسواد الخبث والكيد فيها - سُجِّلَ في أدبيات السياسة والتعامل الإنساني أن العدو الواضح الصريح الذي لا يُخفي عداوته خير ألف مرة من المنافق المداجي الذي يظهر الموالاة ويبطن خلافها، وليس لأحد أن يستغرب ذلك؛ فقد أبيدت شعوب وسقطت حكومات ودول وأريقت دماء وتقطعت أواصر وروابط بسبب هذه الخليقة، ولكي نستحضر منتهى البشاعة فيها لنتصور الطعنة المسمومة في الظَّهر من شخص يُعْتَقَدُ أنه السند والظهر. وفي أدبيات الحكم والسياسة كذلك كان هناك من لم يطق مواقف النفاق وتعبيرات الدجل والكذب، ففي الاحتفال بتتويج الخليفة الأموي (عبدالملك بن مروان) ألقى الشاعر (الكميت بن زيد) منظومةً يمدحه فيها منها قوله: (يأتلق التاج فوق مفرقه على جبين كأنه الذهب) فصرخ في وجهه الخليفة قائلاً: (أتصفني بهذا الوصف وكأنما أنا أحد أعلاج الروم، وتقول عن مصعب بن الزبير: (إنما مصعبٌ شهاب من الله تجلت عن وجهه الظلماء)؟! كذلك ينبغي أن نسجل أن هناك فرقاً وبوناً شاسعاً بين أساليب النفاق من جانب والمجاملات النبيلة والصدق في الإشادة والمديح من جانب آخر، ومن هنا فَرَّقَ النقاد في قراءة شعر أبي الطيب المتنبي بين هاتين الخصلتين، فأثبتوا أن قصائده في سيف الدولة الحمداني معلقات حب ووله حقيقي وفناء في شخص الممدوح، فيما جاءت منظوماته المدائحية في كافور الإخشيدي نوعاً سخيفاً من النفاق والمداجاة وتمثيل دور المعجب الوامق. ومن أجل ألاّ نخلط الجد بالهزل، وألاّ يتحول الموقف إلى رواية متقابلات من التجارب الشعرية والأدبية، ونقل القصص والحكايات، لنتذكر معا أن النفاق بصوره كافتها وأشكاله جميعها أنه كارثة سلوكية وخُلُقية وَصَمَتْ تاريخ البشرية بأبشع سمات الخيانة على الإطلاق، ولنتذكر أن المنافقين جمعوا بين الكفر بعد الإيمان والفسوق، وأنهم مهما اسْتُغْفِرَ لهم فلن يغفر الله لهم. نستجير بالرب من سوء المصير والجزاء.