ما يميز الدول الراسخة، ليس مساحتها الجغرافية، ولا موقعها الإستراتيجي، ولا تعداد سكانها، حتى ولا ثرواتها. صحيح أن لكل ذلك أثرًا وقيمة في صوغ مكانة الدول، ووضعها على سلم الترتيب الإحصائي في مدى التأثير والتأثّر، لكن الذي يميز الدول حقيقة هو قياداتها، ومدى ما تملك من خيارات في الإستراتيجية، وبدائل في الأداء، ثم شعبها، وما تتوافر لديه من قدرة غير محدودة على البقاء. فإذا ما أضيف إلى ذلك العزم والوعي والثقة، فسوف تتحقق المعادلة الكبرى، ألا وهي الدولة العصرية، بطرفيها القادريْن؛ القيادة والشعب. الخطاب الملكي التاريخي الذي ألقاه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، على قلوب السعوديين، وعلى عقول الأمتين العربية والإسلامية، وعلى أسماع العالم كله، وضع أكثر من نقاط على حروف، وأبعد من إشارات لمواقف، وأشمل من خارطةٍ لطريق. هذا الخطاب الملكي وضع أُطُرًا لليوم، وأسسًا للغد، واستغرق كل ما يدور في الأذهان، وأحاط بما يتوارد إلى القلوب، وقطع الشك باليقين أن المملكة عازمةٌ على أن ترقى بشعبها، وتحمي قيمها، وتستنهض عزائم أبنائها، وتنهض بتعليمها، وترعى مقدسات أمتها، وتميل كل الميل إلى السلام والعدل، وتتكئ على تاريخها لتطوير حاضرها، والإبداع في بناء مستقبلها. إن أكبر مكتسبات المواطن السعودي تكمن في وحدته الوطنية، والتي ما فتئت تشغل بال سلمان بن عبدالعزيز مواطنًا، قبل أن يكون ملكًا، وبالتالي فهو يعي أكثر من غيره كم هي غالية هذه الوحدة، وكم ينبغي العض عليها بالنواجذ، والتمسك بها في السراء والضراء، في وقت بات الإعلام فيه أكثر تأثيرًا، وأعظم خطرًا، وبات الهاجس الوطني شاغل الحريصين، وشغل الوطنيين. من هنا كان تشديد خادم الحرمين الشريفين – يحفظه الله – على أن المواطن السعودي هو محور الاهتمام والرعاية، وأنه لا بد من لجم الألسن التي تجنح إلى أي تفريق، أو تفريط في قدسية الدم السعودي. وكذلك كان تأكيده على أن الأهداف واحدة موحّدة، وأن المواطَنة قيمة متجددة، والواجب يقضي تنقية النفوس، ومصادرة كل شك أو تشكيك قد يعتورها في حقيقة التساوي الجغرافي، من حيث الاهتمام والتنمية، والعدل في متطلبات الحياة. وتوازنًا مع الأحداث، وبالتوازي مع متطلبات المرحلة، كرّس الملك سلمان عزم المملكة على حماية مقدساتها، والذود عن حياضها، وبذل كل غالٍ ونفيس لحفظ أبنائها من الانزلاق في دروب التطرف الطارئة على مجتمعهم، وقيمهم، والمعنى الحقيقي لرجولتهم، والتي ينبغي أن تقف بكل عنفوانها في محاربة الإرهاب بكل أطيافه، والحؤول دون تحقيق أهدافه. لذلك كان الخطاب عالي النبرة في إعلاء شأن القطاعات العسكرية كافة، وتعزيز قدراتها في مختلف الوجوه والميادين، وأسبغ على حماة الديار قيمة لا يعلو عليها إلا ثرى الوطن الواقفين على حدوده، وفي كل عناوينه، ليل نهار، لحماية ترابه، وحفظ مقدساته. وحين أتي الخطاب الملكي على موضوع النفط، وتقلبات أسعاره وأحواله، كانت الكلمات في منتهى الشفافية، وفي غاية الوضوح، لكنها لم تقف عند معنى هذا الانخفاض المادي، إلا لتؤكد على معنى الارتفاع المعنوي بالإنسان، وعلى أن يكون مستعدًا لبناء اقتصادي متوازن، منوهةً بأن القادم سيكون أفضل، وأن المملكة سائرة في دروب التنمية باطّراد. لقد كان المجتمع السعودي بكل مكوناته ماثلاً في ذهن الملك سلمان بن عبد العزيز، لذلك جاء خطابه – يحفظه الله – محفزًا لأجيال المستقبل، حاثًّا ومحرضًا على تطوير الذات، واستغلال فرص التعليم الكبيرة، التي وفرتها المملكة لهم، باعتبارهم الاستثمار الأمثل للأوطان. كما وضع الخطاب القطاع الخاص عند مسؤولياته التاريخية، وأهاب به أن يكون الجناح الآخر الذي تكتمل به عملية التحليق الاقتصادي والخدمي، مؤكدا على أنه حين يكون الأخذ حقًّا، فإن العطاء يصبح واجبًا. إن القراءة الواعية المبصرة للخطاب التاريخي الشامل، الذي أفاض به خادم الحرمين الشريفين على الشعب والأمة، لا بد وأن تقف على هذا الخط المتصاعد في بلورة منهجية القيادة الفذة للملك سلمان بن عبد العزيز. وفي مثل هذه القراءة، لا بد من الاعتراف بهيكلة فريدة للخطاب، فمن أهمية التاريخ، إلى قيمة التنمية، إلى بناء الإنسان، إلى دور الإعلام، وكل ذلك تمهيد للتطوير، الذي يجب أن يكون سمة لازمة للدولة، أو متلازمة مع قياداتها، بشرط أن يتوفر الأمن، لأنه لا بناء مع الخوف، ولا اطمئنان مع التطرف والعنف. في خطابه الملكي الشافي، كان خادم الحرمين الشريفين واضحًا، وصريحًا في تحديد المسؤوليات، ووضع النسق العام لأجهزة الدولة، ولم يحد عن الوقوف أمام الهواجس، مثلما لم يبعد عن التشبث بالحقائق، في سياق نفَسٍ إصلاحي تصالحي منسجم مع عظم المسؤولية الملقاة على عاتق قائد يرى القيادة أمانة، والدين عصمة، ويتطلع إلى الوطن فيبصره بقلبه، وإلى المواطن فيحتضنه بجوارحه، ثم يدعو الله أن يأخذ بيده إلى نصرة دينه، وتحقيق آماله. أما نحن – السعوديين – فلنا الشرف أن نؤمّن على دعاء القائد، ولنا التشرف بالتأكيد على المبايعة والطاعة، وبذل ما في الشرايين قبل ما في اليد للذود عن وطن أرضه أقرب عناوين الأرض إلى السماء، وأهله أكرم الخلق على وجه الغبراء. *مديرعام مكتب التربية العربي لدول الخليج