حينما سمعتُ الخبر للوهلة الأولى، قلت : الحمد لله، لا بد أنهم عثروا أخيرا على ذلك المخزون المائي الاستراتيجي الذي " يعادل جريان نهر النيل لمدة 500 سنة "، والذي أسس في مرحلة سابقة لتبني بعض السياسات الزراعية، وتشجيع التوسع في زراعة القمح تحديدا، سعياً لتحقيق أعلى معدلات الأمن الغذائي للبلد، قبل أن تكشف الدراسات العلمية قلة حظوظ هذه المعلومة من الدقة، وبالتالي الخوف من أن يؤدي ذلك التوسع في النشاط الزراعي إلى استنزاف المخزون الاستراتيجي من مياه الشرب بوتيرة أسرع، الأمر الذي عجل بالعودة عن تلك السياسة لصالح ترشيد استنزاف المياه الجوفية. عدتُ لقراءة الخبر الذي أسعدني في البداية وأوهمني ألا عطش بعد اليوم، والذي طيرته الشركة الوطنية للمياه لوكالات الأنباء، تحت عنوان (المملكة تملك أكبر خزن استراتيجي للمياه على مستوى العالم)، وأشارت إلى أنه يُعد إنجازا عالميا، فوجدتُ أنه مجرد بناء (11) خزان مياه ضخما بسعة 188 ألف متر مكعب لكل خزان في بريمان في محافظة جدة، وأنه لا يعدو في واقع الأمر كما لو كان عند أحدكم خزان مياه يتسع لوايت واحد، وجاء أحد جيرانكم وأقام خزانا يتسع لثلاثة وايتات، وأنه بالنتيجة لن يوصلنا بحجمه إلى ما هو أبعد من الدخول في موسوعة غينيس للأرقام القياسية، إلى جانب أكبر صحن كبسة، وأكبر طبق كشري، وأكبر (جاط) تبولة وما إلى ذلك من قائمة أكبر وأصغر وأطول وأقصر، هذا كل ما في الأمر، في حين أن صياغة الخبر توحي بأننا أعدنا اكتشاف ذلك النهر الخرافي الذي لن يظمأ بعده أحد، من القريات إلى نجران، ومن الخفجي إلى آخر تل في رمال الربع الخالي، لأن عنوان الخبر يتحدث عن المملكة بعمومها وليس عن منطقة بريمان في جدة، ولو كان لدى شركة مياهنا الموقرة أدنى حس استراتيجي لأحجمتْ عن نشر هذا الخبر الذي لن يكون من شأنه سوى تسويق الوهم شغفاً بغينيس وموسوعته، ودفع الناس للمزيد من الاسراف في استخدام المياه واهدارها بلا حساب، وضرب كل جهودها وحملاتها الاعلامية لجهة ترشيد الاستهلاك. نعم .. مهم جدا أن يكون لدينا في كل منطقة خزانات مياه ضخمة( للطوارئ )، ومهم جدا أن يرتفع اهتمامنا بالخزن الاستراتيجي للمياه بالتوسع في بناء السدود، والحد من استنزاف المياه الجوفية، ومهم كذلك أن تتسع دائرة انتاجنا من مياه التحلية، ومحطات معالجة مياه الصرف، كل هذا مهم، لكن دون هذا التهويل الذي يجعلنا نتوهم أننا نمتلك أكبر خزن " استراتيجي " للمياه على مستوى العالم، وكأننا أفقنا من النوم فوجدنا أنفسنا تحت مصبات شلالات نياجارا، وليس في هذه الصحاري الشاحبة التي نوالي فيها صلوات الاستغاثة للمولى القدير بألا يحرمنا الغيث، وأن ينعم علينا من بركات السماء. ولنسأل الشركة .. ماذا يعنينا أمام ايحاءات هذا الخبر المضللة، والذي لن يحقق ما هو أبعد من تأجيل التهديد بالعطش لمنطقة واحدة ولفترة صغيرة فيما لو حدث أي طارئ لا قدر الله، سواء فتحتْ لنا موسوعة غينيس سجلاتها أو أوصدتها دوننا ؟، لأن الافتتان بغينيس والدخول إليها قد يصلح في المسابقات الرياضية والاجتماعية وميادين التفاخر المعنوي فقط، لكنه قطعا لا يُسوق إلا للمردود العكسي في القضايا الاستراتيجية الكبرى كقضية الماء، والتي تُفزع دولا تجري من تحتها الأنهار، وإلا ما الذي سنجنيه من وراء هذا التسجيل مع أضخم حصان، وأطول شعر، وأعلى قفزة، وأسرع كلب، وأكبر هوت دوق، وأطول لسان، وأصغر سيارة، وأطول سارية، وأكبر لعبة يويو، وما إلى ذلك ؟ ماذا يُضيف لنا تسجيل خزانات بريمان في هذه الموسوعة ؟ وتحت هذا العنوان المضلل، حتى وإن كان المقصود الحجم والسعة، سوى نسف كل المناشدات بترشيد الاستهلاك، والحد من الاسراف، والتبذير في استخدام المياه بذريعة : ما الذي يدفعنا إذن للترشيد طالما أن بلادنا تمتلك أكبر خزن استراتيجي في العالم ؟ في حين أن الواقع يفترض الإشارة إلى أنها خزانات طوارئ سواء أكانت أكبر أو أصغر، وأنها مهما امتلأتْ، فلا يجب أن تجعلنا نتقاعس عن صلوات الاستغاثة وعن البحث في البدائل، لأن نذر العطش في بلادنا هي ما يجب أن نذهب بها إلى غينيس!