عندما تتأمل ما جرى ويجري في المواقع الملتهبة في المنطقة، فإنك تصل لقناعة بأن المؤدلج لا يلبث أن يجد صعوبة في الانفكاك من إسار ايديولوجيته كون الايديولوجيا، أياً كانت، هي الأقوى من حيث الهيمنة والسيطرة على العقل، بدليل السلوك الذي يمارسه ما يجسد تلك الحالة الفكرية، ولذا قد تجد أفكاراً أو مواقف قد لا توافق الواقع أو لا تتسق مع طبيعة المنطق ومع ذلك فقد حدثت وتحدث ما يعني أن عالم الايديولوجيا يدفع المؤدلج للتشبث بتلابيبها والإمعان في الدفاع عنها حتى لو كلفه ذلك حياته. ولعل الصراع على سبيل المثال ما بين الاعتدال والتطرف دليل حي على هكذا تباين والذي يُصوره البعض على هيئة خلاف سني بين فريقين لهما نظرتين مختلفتين للإسلام من خلال الانقسام في الرؤية الفقهية والمرجعية الدينية. على أي حال، أبجديات الفلسفة تخبرنا أن الخيط الأول لفهم أبعاد سلوك ما، هو معرفة طبيعة الفكر الذي أنتجه. وهناك مخيلات وأفكار وتصورات تتشكل في العقل البشري وتتبلور جزئياتها لتتجسد على هيئة فعل ممارس على الأرض. العقل هو من يقود تلك المرحلة ولكنه يخضع بطبيعة الحال للأيديولوجيا التي تعشش في قاعه فتسيره أينما أرادت كونها هيمنت على مصدر قراراته. بعبارة أخرى عندما يختطف العقل من جماعات متطرفة فأن النتيجة تكون سلوكيات مرفوضة ومقززة تتعارض مع الشرائع السماوية والفطرة الإنسانية، ولذلك ما يحدث مع تلك النماذج هو هيمنة اللذة المؤدلجة على قدرة العقل، والسيطرة عليه وقيادته، فبالتالي يتشكل ذلك الإحساس على هيئة سلوك حيث غالباً ما يكون عنفياً ودموياً. ولكي نمضي إلى المزيد من التوضيح نجد أنه كان لافتاً قيام تنظيم "داعش" بمهاجمة كل من أسامة بن لادن وأيمن الظواهري في العدد الجديد من مجلة "دابق" الناطقة باسم التنظيم، وفقا للعربية نت، فقد اتهم بن لادن بانه كان مخالفاً لعقيدة أهل السنة والجماعة، وأن الظواهري شخص منحرف وضال. كما هاجم التنظيم حركة طالبان واتهم رئيسها الملا محمد عمر بأنه رأس من رؤوس الضلال في أفغانستان، وواصل التنظيم هجومه ليطال أبو قتادة الفلسطيني وأبو محمد المقدسي وأبو مصعب الزرقاوي ومحمد النظاري، حيث وصفهم بأنهم من رؤوس الضلال والمشايخ الذين يدعون الناس على أبواب جهنم. صراع الجماعات المتطرفة مع بعضها البعض أمر ليس بالجديد فأدبياتهم تجيز ذلك، وهاهي داعش لا تتردد في قطع الفروع الأخرى رغم أنهم جميعاً ينتمون لذات الشجرة، وذلك لأجل الاستحواذ وامتلاك الساحة وبالتالي تحقيق الحلم المتخيل في أذهانهم! هذا التكتيك الداعشي هو صراع على مشروعية الاستحقاق والتمثيل لهذا التيار بالمجمل عن طريق سحب البساط من كل الجماعات الأخرى للاستحواذ على المكانة والمرتبة والمشروعية على الأقل في الوسط المتطرف وبالتالي أحقية التفرد بالسلطة لا سيما وقد حققت القبول من قبل المنتمين لهذا التيار كمرحلة أولى قبل أن تحين اللحظة المراد الوصول إليها أو هكذا يتصورون، ولذلك فتشويه الآخرين والتقليل من مكانتهم والانتقاص من أدوارهم أساليب معتادة من هذه الجماعات تمارسها ضد بعضها البعض بالرغم من المرجعية الفكرية الواحدة. على أن داعش بز غيره من التنظيمات الإرهابية من حيث التجنيد والتكتيك والتوسع والاستقطاب واستخدام أساليب جاذبة وخيالية عبر الصورة والرسالة الإعلامية المؤثرة لانضواء الشباب المسلم وكسب تعاطفهم. هذا التنظيم استغل وبخبث نزاعات المنطقة واستثمرها لمصلحته بما لها من قابلية للعنف والانتقام لدى الشعوب، ناهيك عن إيجاد طرق جديدة من تهديم للإرث الحضاري الإنساني وصولاً إلى فنون الإبادة والتشنيع والذبح والحرق بهدف إدخال الرعب في قلوب المسلمين والمستأمنين، وإن كانت وحشية ممارساته البشعة أصبحت كما يبدو تمثل عاملاً رئيسياً في تدهور جماهيريته وبما يقود ربما لفناء مشروعه وهو سيسقط حتماً. ومع أن مسألة سقوط داعش أصبحت مسألة وقت، إلا أن هذا ليس المهم، فالقضية هنا أهم من مجرد مواجهة جماعة متطرفة في طريقها للتلاشي لأن المسألة تتعلق بصراع فكري في المقام الأول ما يعني انه قد يتعرض للمرض والضعف والوهن أحياناً ولكنه لا يموت. بعبارة أخرى داعش قد تختفي من الساحة ولكننا لن نتفاجأ إذا ما ظهرت لنا بعد أشهر أو بضع سنوات جماعة أخرى باسم آخر تحمل ذات الفكر الداعشي وأيديولوجيا القاعدة وهنا يكمن لب المعضلة. فإن كان الفكر هو الجذر المفصلي لكبح الإرهاب لأنه يمنع توالده وتكاثره فإن المهمة تقع بلا شك على عاتق الدول العربية إن أرادت فعلا تحصين عقول شعوبها وذلك بنشر الثقافة التنويرية، انطلاقاً من إعادة النظر في خطابها الديني فضلاً عن تقديم البديل فكرياً وسياسياً ما يكرس التسامح واحترام الآخر وعقائده، وبالتالي استبعاد خطاب التطرف. ولا زلت على قناعة في أن الفكر لا يواجه إلا بفكر مماثل، أي نقد لأدوات وآليات ومضامين هذا الفكر من حيث اللغة والتوجه والأداة والمفهوم والرؤية والمنهج. وليس باجترار مقولات مستهلكة وعقيمة. ولا يداخلني شك في أن العلماء المستنيرين هم القادرون على الرد على تلك الطروحات المتشددة وتفكيكها وتعطيلها استناداً لقدراتهم العلمية في السياسة الشرعية وفقه الواقع والاستنباط الفقهي. صفوة القول: صراع الجماعات المتطرفة مع بعضها البعض أمر ليس بالجديد فأدبياتهم تجيز ذلك، وهاهي داعش لا تتردد في قطع الفروع الأخرى رغم أنهم جميعاً ينتمون لذات الشجرة، وذلك لأجل الاستحواذ وامتلاك الساحة وبالتالي تحقيق الحلم المتخيل في أذهانهم!