يستحق المخرج جعفر بناهي لقب المخرج المشاغب بجدارة، فدائماً ما تحمل أفلامه نقداً واضحاً للنظام في إيران في نبرة أعلى من أي مخرج إيراني آخر. وقد دفع ضريبة عالية جراء ذلك، فقد اعتقل لعدة مرات لفترات قصيرة، ولكن الضريبة الكبرى دفعها عام 2010 حيث اعتقل هو وزوجته وابنته ثم حكم عليه بالسجن لمدة ست سنوات ومنع من الإخراج والكتابة والسفر خارج إيران لمدة عشرين عاماً، وكذلك منع إجراء أي مقابلة مع وسائل الإعلام المحلية والخارجية. وهو الأمر الذي لم يلتزم به بناهي، فقد استطاع بطرق ملتوية أن يصنع ثلاثة أفلام ويُهرّبها خارج البلاد، لتعرض في مهرجانات دولية وتحصد الكثير من النجاح. وكان آخرها، فوز فيلمه "تاكسي" بجائزة الدب الذهبي في مهرجان برلين الدولي الذي اختتم مؤخراً. جعفر بناهي ولا شك أن بناهي نال تعاطفاً دولياً كبيراً بعد الحكم الذي صدر تجاهه، وربما ساهم هذا إلى حد ما في الحصول على جوائز عن أفلامه الأخيرة، ولكن المؤكد أن بناهي أوضح بشكل غير مسبوق، أن العوائق لا تمنع من صناعة فيلم حين يمتلك المخرج الأدوات اللازمة لذلك؛ بل إن هذه العوائق قد تخلق نوعاً سينمائياً خاصاً بالمخرج نفسه. ورغم أن الكل يعرف الخطوط الحمراء الكثيرة التي يعمل في ظلها المخرجون الإيرانيون، لكنهم بشكل عام وظفوا هذه العوائق أسلوباً سينمائياً يستلهم الواقعية الجديدة الإيطالية ويعطيها طابعها الإيراني الخالص. لكن حالة بناهي قد تكون شديدة الخصوصية، فهي تستلزم الفهم الكامل للغة السينمائية ومعرفة التعبير عن أي واقع مهما بلغت عوائقه. وربما تشرح أفلامه الأخيرة حالة الشغف التي تصيب المخرج، فلا يتملك إلا أن يكمل المسيرة، أياً كانت الظروف. وقد عرف بناهي دولياً بفيلمه الأول "البالون الأبيض" (1995)، حيث نال عنه جائزة الكاميرا الذهبية في مهرجان كان السينمائي الدولي، وكانت الجائزة الأولى التي يحصل عليها مخرج إيراني في مهرجان كان. وتلاها النمر الذهبي في مهرجان لوكارنو عن فيلم "المرآة" (1997)، لكن إنجازه السينمائي الأهم كان فيلم "الدائرة" (2000) والذي فاز بجائزة الأسد الذهبي في مهرجان فينيسيا، وهي الجائزة الأبرز في المهرجان العريق وتقدم لأفضل فيلم في المسابقة الرسمية. والحقيقة أن الفيلم من أكثر الأفلام الإيرانية جرأة في تناول وضع المرأة في إيران. يبدأ الفيلم بإحدى شخصيات الفيلم وهي شابة تطل على غرفة ولادة من نافذة صغيرة حيث تولد بنت صغيرة، ثم تركض خارجة من المبنى لتتوالى الشخصيات النسائية واحدة وراء الأخرى ولكل منها حكاية لتنتهي إحداهن في السجن والنافذة الصغيرة للزنزانة تشبه نافذة غرفة الولادة. وقد منع هذا الفيلم من العرض داخل إيران. وبعدها قدم بناهي فيلم "الذهب القرمزي" (2003). وهو فيلم يصور حالة رجل فقير يعمل في توصيل البيتزا ويفشل في سرقة محل مجوهرات ويتناول الأحداث التي أدت به إلى السرقة. وهو مبني على قصة حقيقية سمعها بناهي من المخرج عباس كياروستمي وقرر أن يخرجها بعد أن وافق كياروستمي على أن يكتب له النص. وقد عرض الفيلم في مهرجان كان في قسم "نظرة ما" وحاز على جائزة لجنة التحكيم، في حين أنه لم يحصل على التصريح من وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي الإيرانية بعرضه داخل إيران، فقد طلبوا منه للحصول على تصريح، إلغاء عدة مشاهد، وهو الأمر الذي رفضه المخرج، مما أدى إلى منع الفيلم أيضاً من العرض في إيران. وبعدها بعدة سنوات، أخرج بناهي فيلم "تسلل" (2006)، والذي يحمل بصمة بناهي التي تأكدت بعد ذلك أكثر فأكثر، فالسرد يتراوح بين الوثائقي والروائي وحيث هناك شخصيات دائماً تعيش في مأزق مع النظام الذي يحاول دائماً قمعها ومصادرة حقها، ولكن في ذات الوقت ليس هناك من مباشرة واضحة أو تشنج في لغة الفيلم. ويحكي "تسلل" قصة شابة حضرت متخفية في زي شاب في الملعب لمشاهدة مباراة كرة قدم بين منتخب إيران والبحرين في دورة كأس العالم، لأن النساء ممنوعات من الحضور في الملعب، يمسك الأمن بالشابة لتجد مجموعة من البنات حضرن بنفس الطريقة، وتنشأ بين البنات والأمن حوارات حول المنع. ولتصوير الفيلم والحصول على تصاريح خاصة بذلك، تحايل بناهي على الوزارة، وذلك بتقديم نص آخر حول مجموعة من الشباب يريدون مشاهدة المباراة، حتى يتمكن من التصوير داخل الإستاد الرياضي، كما تحايل أيضاً بوضع اسم مساعد المخرج كمخرج للعمل. وقد تم عرض الفيلم في برلين وحصل على جائزة الدب الفضي، ولكن كالعادة منع من العرض في إيران. ومع ذلك فقد تمت قرصنة الفيلم ومشاهدته من قبل عدد كبير من الإيرانيين، وذكر المخرج أن "تسلل" ربما هو فيلمه الوحيد الأكثر مشاهدة داخل إيران. وقد تشكلت مجموعة من النسويات المعارضات وأطلقن على أنفسهن اسم "بنات الوشاح الأبيض" وبدأن بالتظاهر أمام أماكن إقامة المباريات وهن يحملن لافتة مكتوب عليها "لا نريد أن نكون تسلل". وقد أرسلت شركة سوني بيكشر كلاسيكس، إحدى أكبر شركات التوزيع السينمائي في الولاياتالمتحدةالأمريكية، طلباً لوزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي لعرض الفيلم لأسبوع واحد فقط داخل إيران، حتى يمكن للفيلم التأهل لترشيح لجائزة الأوسكار في فئة أفضل فيلم أجنبي، ولكن الوزارة لم تستجب لطلب الشركة، وحرم بناهي من الترشح للجائزة. وفي عام 2010، تم اعتقال بناهي وزوجته وابنته و15 من أصدقائه بحجة الدعاية ضد إيران، كما تم اتهامه بأنه يعمل على صناعة فيلم عن أحداث ما بعد الانتخابات الرئاسية التي توجت محمود أحمدي نجاد لولاية رئاسية ثانية وأبعدت مير حسين موسوي. وكان بناهي قد أقنع في وقت سابق، أثناء رئاسته للجنة التحكيم في مهرجان مونتريال السينمائي الدولي، كل أعضاء لجنة التحكيم بارتداء وشاح أخضر في حفلي الافتتاح والختام، تضامناً مع الثورة الخضراء في إيران. وكان هناك تضامن كبير من المجتمع السينمائي الدولي مع بناهي أثناء اعتقاله. فقد قام العديد من المخرجين الأوربيين المعروفين، ومنهما الأخوان داردين وأوليفيه أسايس، ومخرجان إيرانيان ومنهما كياروستمي وفرهادي، وأمريكين، ومنهم فرانسيس فورد كوبولا والأخوان كوين وآنغ لي وريتشارد لينكلاتر وبول توماس أندرسون وتيرانس ماليك ومارتين سكورسيزي وستيفن سبيلبيرغ وأوليفر ستون، بتقديم التماس للحكومة الإيرانية للإفراج عنه. كما طالبت معظم المهرجانات السينمائية الدولية بإطلاق سراحه، وشارك في الحملة بعض وزراء الثقافة الأوربيين، ومنظمة العفو الدولية. ومع ذلك فقد انتهز بناهي فترة الاستئناف لتصوير فيلمه "هذا ليس فيلماً" (2011) وتوثيق ما يمر به داخل مسكنه، من بحث تفاصيل المحاكمة، والحديث عن أفلامه السابقة، والحديث عن سيناريو أحد الأفلام التي كان ينوي تصويرها قبل صدور الحكم، وعلاقته مع سكان العمارة التي يسكن بها. وقد تم تهريب الفيلم بتحميله في "درايف" صغير وإخفائه داخل كعكة إلى مهرجان كان. وعاد بعدها في عام (2013) ليهرب لمهرجان برلين فيلمه الثاني "الستارة المغلقة" والذي اشترك مع بناهي في إخراجه وتمثيله كامبوزيا بارتوفي، كما شاركت في تمثيله مريم مقدم وهادي سعيدي. وتدور أحداث الفيلم حول كاتب يلجأ إلى بيت مطل على بحر قزوين، هرباً من السلطات الإيرانية، بعد أن اعتدى على أحدهم دفاعاً عن كلبه الذي تود الشرطة مصادرته. فيغلق ستائر البيت كلها ليتوارى عن الأنظار ولكنه لا ينعم بالسلام، لأن شاباً يطرق بابه ويودع أخته عنده بعد أن يقول له إنهما هربا من الشرطة بعد وجودهما مع مجموعة من الشبان والشابات على البحر، ويحذره من أن لأخته ميولاً انتحارية. ثم يظهر بعد ذلك بناهي ونعرف أن هاتين الشخصيتين ليسا سوى شخصيات خيالية من أعمال المخرج. وقد حاز الفيلم على جائزة أفضل سيناريو في المهرجان. ليقدم بعد ذلك فيلمه الأخير "تاكسي" الذي يمثل فيه بناهي دور سائق تاكسي ويصور أحاديثه مع الركاب عن الأوضاع في إيران، وقد نال الفيلم جائزة الدب الذهبي لمهرجان برلين. ما يميز أفلام بناهي هو السرد الذي يتأرجح دائماً بين الوثائقي والروائي، فهناك مزج بين العفوية الوثائقية والرؤية الإخراجية الروائية التي تروي حكاية واضحة المعالم، بشخصيات رئيسية. وربما غاب عن أفلام بناهي الأخيرة البعد الاجتماعي الذي كان يميز أفلامه الأولى، لتصبح أكثر "شخصية" وتدور في فلك المخرج الخاص، لكنها بقيت محافظة على روحها الخاصة وبصمته التي لا تغيب. هموم المرأة في فيلم «الدائرة» من فيلمه الأخير «تاكسي» فيلم «تسلل» قدم زاوية مختلفة لاضطهاد المرأة الإيرانية