في الأسبوع الماضي كتبت مقالاً بعنوان "توقف عن طرح الأسئلة وابدأ بطرح التساؤلات".. فرقت فيه بين السؤال والتساؤل.. شرحت فيه الفرق بين طرح سؤال (تأخذ إجابته بسرعة من غيرك) وتساؤل (تطرحه بينك وبين نفسك وتستنتج جوابه بعد طول تفكير وتأمل).. وخلال حديثي قلت: وهناك كتب كثيرة ألفت بطريقة السؤال والجواب، غير أن أعظم من طرح "التساؤلات" بعد أرسطو وأفلاطون كان فيلسوف الأدباء أبو حيان التوحيدي.. فقد أشرك القارئ في تساؤلات كثيرة حول النفس والروح والطبيعة والأخلاق وعلاقة الفلسفة بالدين، لدرجة يشعر القارئ أنه هو من يطرحها على نفسه، فيتبنى موقفه بلا تردد!! .. غير أنني أدركت - من خلال ردود القراء- أن بعضهم لم يسمع بهذا الاسم أصلاً، ناهيك عن معرفة مؤلفاته وتساؤلاته العميقة.. وهكذا قررت كتابة هذا المقال مستعيناً بكتاب "الهوامل والشوامل" الذي تضمن أكثر من 175 تساؤلاً جميلاً من هذا النوع.. وقبل استعراض شيء منها أشير الى أن "التوحيدي" من أعلام القرن الرابع هجري واسمه الكامل علي بن محمد بن العباس التوحيدي البغدادي.. وصفه البعض بالتصوف، والبعض الآخر بالإلحاد، وقسم ثالث بالوحدانية، في حين وصفه ياقوت الحموي بفيلسوف الأدباء.. امتاز بالذكاء وسعة الثقافة وكثرة المؤلفات مثل كتاب المقابسات، والإمتاع والموانسة، والبصائر والذخائر، والإشارات الإلهية، والهوامل والشامل. والكتاب الأخير يتضمن تساؤلات ومحاولات إجابة دارت بينه وبين مسكويه (فيلسوف ومؤرخ وشاعر وسياسي زمن الدولة البهوية).. ومن الهوامل (أوالأسئلة) التي أوردها التوحيدي في هذا الكتاب: = على ماذا يدل انتصاب قامة الإنسان من بين سائر الحيوان؟ = وما بال أصحاب التوحيد لا يخبرون عن الباري إلا بنفي الصفات؟ = وما الفرق بين العرافة والكهانة والتنجيم ولماذا تشغل بال العرب؟ = وما علة كراهية النفس للحديث المعاد وسر ثقل إعادة الحديث على المتحدث؟ = وما وجه الحكمة فى آلام الأطفال والحيوان؟ = وماعلة غم العقلاء وراحة الجهلاء... = ولم الثناء في الوجه قبيح وفي الغيب حسن؟ = ولم ينقص الناس في أعمارهم حين يسألون عنها؟ = ولم يتداعى البنيان إذا لم يسكنه أحد؟ = ولم يتواصى الناس بكتمان الأسرار؟ = ولم يعظّم الإنسان ما مضى من عمره؟ = ولم غيرة المرأة أشد من غيرة الرجل؟ = ولم كلما شاب البدن شبّ الأمل؟ = ولم يفرح الإنسان بنيْل ما لم يتوقعه أكثر من فرحه مايعرف وقوعه؟ = وما الحكمة من وجود الجبال؟ ولم صارت مياه البحر ملحا؟ = ولم كان صوت الرعد إلى آذاننا أبطأ من رؤية البرق إلى أبصارنا؟ = ولم كلما زاد الانسان في صلاته وصيامه حقر غيره وتكبر عليهم وكأنه صاحب الوحي؟ = ولم يقول الفقهاء في نفس الشيء: هذا حرام وهذا حلال، والدين واحد؟ هذه مجرد نماذج لتساؤلات كثيرة (تشغل كل انسان) توزعت بين الفقة والطبيعة والأخلاق والفلسفة وأحوال الناس.. ومن بين كل أدوات الاستفهام يفضل التوحيدي استعمال (لِمَ؟) كدليل على اهتمامه بالبحث عن علة الشيء ذاته.. لا يستعمل (كيف؟ ومتى؟ وأين؟) وكأنه يخبرنا بأن ما أصبح مشاهدا وواقعاً لم يعد مهما البحث عن سببه وبدايته وكيفية حدوثه أو شغل أنفسنا به!! .. وهذه من وجهة نظري.. فلسفة واقعية.. جداً..