قال أبو الفتح المنطيقي: كنّا جلوساً عند كافور الإخشيدي وهو يومئذ صاحب مصر والشام، وله من البسطة ونفاذ الأمر وعلو الهمة والقدر وشهرة الذكر ما يتجاوز الوصف والحصر، فحضرت المائدة والطعام، فلما أكلنا نام وانصرفنا. فلما انتبه من نومه طلب جماعة منا، وقال: امضوا إلى عقبة النجارين، واسألوا عن شيخ أعور كان يقعد هناك، فإن كان حياً فاحضروه، وإن كان قد توفي فاسألوا عن أولاده واكشفوا أمره. فمضينا هناك، وسألنا عنه، فوجدناه قد مات وترك بنتين: إحداهما متزوجة، والأخرى عاتق، فُعدنا إلى كافور وأخبرنا بذلك. فسيَّر في الحال من اشترى لكل واحدة منهما داراً، وأعطى كل واحدة منهما ثياباً وكسوة وذهباً كثيراً، وزوَّج العتاق وأجرى على كل واحدة منهما رزقاً؛ وأشهر أنهما من المتعلقين به، لرعاية أمورهما. فلما فعل ذلك وبالغ فيه ضحك، وقال: أتعلمون سبب هذا؟ قلنا: لا نعلم، فقال: اعلموا أني مررت يوماً بوالدهما، وأنا في ملك ابن عباس الكاتب بحالة رثة، فوقفت عليه فنظر إلي واستجلسني، وقال: أنت تصير إلى رجل جليل القدر، وتبلغ معه مبلغاً كبيراً، وتنال خيراً كثيراً، وطلب مني شيئاً فأعطيته درهمين كانا معي، ولم يكن معي غيرهما، فرمى بهما، وقال: أبشرك بهذه البشارة وتعطيني درهمين! ثم قال: وأزيدك، أنت والله تملك هذا البلد وأكثر منه، فأذكرني إذا ما صرت إلى ما وعدتُك به ولا تنسني. فبذلت له ذلك، وقلت: نعم، فقال: عاهدني أنك تفي لي، ولا يشغلك الملكُ عن افتقادي؛ فعاهدتهُ ولم يأخذ الدرهمين. ثم إني شُغلت عنه بما تجدد لي من الأمور والاحوال، وصرت إلى هذه المسألة، ونسيت ذلك، فلما أكلنا اليوم ونمت رأيت في المنام قد دخل عليَّ وقال: أين الوفاء بعهدك وتمام وعدك؟ لا تغدر فيغدر بك. فاستيقظت وفعلت ما رأيتم. ثم اشتهر إحسانه إلى بنتي الرجل لوفائه لوالدهما، فتضاعف الدعاء له والثناء عليه.