إيزابيل الليندي، هنالك سحر خاص يحفّ كل ما يتعلق بهذه السيدة التشيلية التي لا تتعب من مد يدها لمصافحة الحياة مرة تلو الأخرى. إنها في الثانية والسبعين الآن، ومازالت تقف على أهبة الاستعداد لكل ما قد يحدث لها، وكأنها ابنة العشرين عامًا. لم أكن أخطط للتواصل معها أو إبلاغها بأن شعبًا لا يتكلّم الإسبانيّة ولا يعرف عن تشيلي إلا القليل، قد أحبها وأحب ما تكتبه. اقترح علي الزميل في جريدة الرياض فواز السيحاني أن أجري حوارًا معها. قلت له: «لا مشكلة». ذهبت وتواصلت معها على بريد مساعدتها تشاندرا، فوصلني ردها مباشرة في اليوم ذاته: «إيزابيل غادرت إلى قريتها في تشيلي كي تعتني بأمها التي تبلغ من العمر 95 عامًا، ستعود في شهر يناير، وسوف تجيب عن جميع الأسئلة.» انتظرت حتى شهر يناير، وقمت بالتواصل مع تشاندرا مرة أخرى، لترد علي إيزابيل هذه المرة:»لا أستطيع قول شيء سوى إنني أحب إيزابيل، من بساطة العبارات في موقعها الشخصي، وسهولة التعامل معها إنسانيًا. كل هذه إشارات تدل على أننا أمام كاتبة وإنسانة من نوع خاص جدًا. وهذا نص رسالة إيزابيل الليندي: «عزيزي السيد محمد الضبع سأحاول أن أجيب على الأسئلة، ولكن سامحني إن لم أجب على بعضها بما يستحق من الإسهاب. لا توجد إجابات سهلة لهذه الأسئلة العميقة» المخلصة إيزابيل الليندي» معظم الكتّاب يتفقون أن جائزة نوبل تمنح لأسباب سياسية فلا توجد جائزة تستطيع أن تقرأ كل كتاب في العالم! لطالما أحببت الفنانين والأدباء... إنهم وعلى حد تعبير «كمبرلي» بمثابة رجال الإطفاء لأرواحنا المشتعلة، حين يكتبون ويبدعون لا يقولون لنا كلاماً فقط، بقدر ما يعيدون لنا صناعة الحياة وفق طريقتهم الخاصة. تصوروا فقط، تصوروا لو لم يكن هناك كافكا أو ماركيز، لو لم يكن هناك ديستوفسكي وليسكانو وسابتو وكامو... ستصبح الحياة شيئًا قاتمًا ومزعجاً، إيزابيل إحدى تلك الأسماء الساحرة، إحدى تلك الأسماء التي تخبرنا بأن في هذا الكون قصصا وحكايات، إنها ستقول لنا في هذا الحوار إن السعادة ليست في النسيان، بل في الذاكرة ، وأن الرجال ليسوا وحدهم من سيقومون بتغيير العالم،النساء يفعلن ذلك أيضًا، الليندي ستقول لنا بأنه لا أكثر مأساوية من وجود هذا الكم الهائل من البشر التعساء، من الأطفال الذين ماتوا بسبب الحروب والأسلحة العابرة للقارات، إلا أنه علينا رغم كل ذلك أن نعيش... أن نعيش فقط مهما كانت الحياة تعيسة!: * في البداية لو لم تمت پاولا، ما الذي كان سيحدث؟ - كانت ابنتي پاولا مريضةً جدًا، كان لديها ألم حاد في الدماغ، ولم يكن لديها أمل سوى أن تحدث معجزة لإنقاذها. إن لم تمت في ذلك السن، فسوف تكون الآن في غيبوبة لبعض الوقت، وربما لبعض السنوات. لم تكن لتتحرك، وعضلاتها ستكون مصابة الجمود، وأعضاؤها ستفشل. هل كانت تشعر بالألم؟ لا أعلم، لأنها لم تكن قادرة على التواصل معنا. كان من الصعب علي أن أكون شاهدةً على عذابها البطيء، وكان الموت حريةً لها. * قبل كل شيء أتمنى أنّ لا أكون قاسيّاً هنا: لم يكن زواجك ناجحًا، وكان مصيره الفقد، الحزن، والتعاسة، وفي الوقت نفسه كان والدك هو ذلك الشخص الذي ذهب لاقتناء السجائر ثم لم يعد عندما كنتِ صغيرة؛ ألا تشعرين بأن هذا الرحيل المبكر «للأب» وتساؤلاتكِ عن مبرراته بشكل صامت ورؤيتك لأمكِ آنذاك وهي ضعيفة تبكي باستمرار ساهم بشكل أو بالآخر في تكوين هذا العصاب تجاه مفهوم «الرجل، الزوج»؛ ما أدى لاحقا إلى حالة من عدم الاستقرار في زواجك، أقصد هل ثمة عقدة فرويدية مختبئة هنا؟. - لست متخصصة في نظريات فرويد، فلذلك من الصعب علي معرفة كم عقدة فرويدية لدي. مهما يكن، لا أظن أنني غير متزنة، ولا أظنني أحمل فكرة سيئة عن الرجال أو الأزواج. لحسن حظي، عرفت رجالًا في حياتي، أحبوني بشكل كامل. وحظيت بزوجين رائعين. ربما كان سؤالك يشير إلى الجانب النسوي الذي أؤمن به. أنا نسوية لأنني مخلوق ذكي ولا أريد العيش في نظام يسيطر عليه الرجال، ولكني في الوقت نفسه لا أكره الرجال. النساء والرجال سيغيرون العالم. ولا علاقة لكوني نسوية برحيل والدي، بل له علاقة بكوني امرأة، واجهت تمييزًا عنصريا ضد جنسي، ولا أريد لحفيداتي وبنات جنسي أن يعشن في عالم تتقلص فيه فرصهن بسبب كونهن ينتمين لجنس ما. ولدي مؤسسة مهمتها تمكين النساء والفتيات من الحصول على حقوقهن، لذلك أنا واعية بالوضع الحقيقي للنساء في معظم دول العالم. (www.isabelallendefoundation.org). لقد تطلقت مرة واحدة. ارتبطت بزوجي الأول عندما كنت في العشرين من عمري، وحظيت بطفلين رائعين، وعشت معه لخمسة وعشرين عامًا. كان زواجنا سعيدًا لسنوات طويلة، حتى افترقنا، بسبب الظروف الصعبة للمنفى. وحتى بعد طلاقنا بقينا أصدقاء حتى هذا اليوم. وتزوجت من زوجي الثاني قبل سبعة وعشرين عامًا، ومازلنا زوجين رائعين. * قلتِ يومًا: ( تصبح الحياة حقيقية عندما أكتبها، ما لا أكتبه تمحوه رياح النسيان)؛ في حين أن شقاءنا يكمن في ذكرياتنا فسعيدون هم المصابون بالزهايمر المبكر كما يقول كافكا؛ من أين أتت هذه المخالفة (الكتابة من أجل الذاكرة وصناعتها، لا الكتابة من أجل النسيان)؟. - لم أقل قط إنني أردت حياة سعيدة. بل أريد حياة مثيرة. وكيف للحياة أن تكون مثيرة إن لم نستطع التذكر؟ كيف بإمكاننا أن ننمو، ننضج، ونتعلم إذا لم نستطع اختبار حياتنا؟ أكتب لأنني أحب إخبار القصص، ولأنني أؤمن أن القصص تخبرنا الكثير عن العالم وعن أنفسنا. كل قصة تمثل تمرينًا للذاكرة، أحيانًا ذاكرتي الخاصة، وغالبًا ذاكرة الآخرين. أكتب عن الأشياء التي أعرفها، وعن الأشياء التي أهتم لها. كيف لي أن أعرف ما يهمني إذا كنت سأنسى الماضي؟ ربما أراد كافكا سعادة نبتة أو دجاجة. ولكني أفضل تعاسة حياة البشر، إذا استطعت أن أعيشها حتى الذروة. * في الحديث عن الذاكرة أحياناً أشعر بأنه لا يمكن لنا أن نعتمد على ذكرياتنا إننا في كل مرة نتذكرها نعطيها معنىً جديدًا لدرجة أننا ومع مرور الوقت ننسى النسخة الحقيقية منها؛ هل تكتبين رغبةً منك في المحافظة على الأشياء كما حدثت بالضبط –أي في نسختها الأصلية-؟ - الذاكرة غير موضوعية، ولا يمكن الاعتماد عليها. قد يشهد ثلاثة أشخاص الحدث ذاته، يتذكره اثنان منهم بشكل مختلف، بينما الثالث قد ينساه تمامًا. أحيانا نغيّر ذكرياتنا السوداء والمؤلمة كي نستطيع العيش معها، وأحيانا نغيرها لأننا لا نستطيع الاتساق مع أفعالنا في الماضي. في حالتي، أكتب رسالة يومية إلى أمي أخبرها فيها عن كل ما يحدث في حياتي، فالأحداث اليومية مسجلة، بهذه الطريقة تصبح ذاكرتي محفوظة. وبالتأكيد فإن هذه الرسائل غير موضوعية، لأنني أكتبها من وجهة نظري. * في هذا العصر لا أكثر مأساوية من كائنٍ سعيد، أليس كذلك؟. - سأقول إنه لا أكثر مأساوية من وجود هذا الكم من البشر التعساء. ربما علينا البدء بتعريف السعادة. لا أظن أن على المرء أن يكون غبيًا أو غافلًا عن معاناة الملايين في العالم كي يصبح سعيدًا. وكما قلت من قبل، لا أبحث عن السعادة الشخصية، أفضّل أن أعيش حياةً مثيرة، ولكني سعيدة لأن أستطيع الكتابة والعمل لتحسين حالة العالم؛ صحتي جيدة، ولدي طاقة، وعي، مصادر، وصوت أستطيع استخدامه لأتحدث للآخرين الصامتين. لا أرغب في أي شيء لنفسي، ولدي حب الكثيرين، خاصةً زوجي. فلماذا لا أكون ممتنة وسعيدة؟ * قال ألبير كامو في خطابه الذي ألقاه بمناسبة تسلمه جائزة نوبل: « الفن هو أن نغرق في الذاتية في كل ما نكتب، أن نكون على مُدّرج السيرك بينما الضحية تحت أنياب الأسد!» هذا أيضًا ما تفعلينه؛ إنكِ تكتبين كي تكتشفي في كل ما كتبتِه وما ستكتبين عن ذاتك هويتك، عن غرائزك المكبوتة كما هو الحال في رواية «أفردويت» و»صورة عتيقة».. إلخ؛ ألا تعتقدين أن هذه الاكتشافات المتكررة لإيزابيل يعطل إمكانية أن تكتبي عن الآخرين، الآخرين البؤساء والموجعين من الحياة ومن طغيان المؤسسات المادية التي صنعت كل شيء إلا أنها وبشرعية دولية قتلت الإنسانية وحولته إلى آلة؟. - سامحني إذا تفاخرت قليلًا للدفاع عن نفسي من اتهاماتك القاسية. لقد بيعت أكثر من 65 مليون نسخة من كتبي مترجمة إلى 35 لغة، ولدي قرّاء مخلصون، لأنهم ينتمون إلى قصصي ويتعرفون على شخوص حكاياتي. لقد كتبت 21 كتابًا، وبعضها كانت كتبًا تاريخية، تستنكر العبودية، الحروب، والديكتاتورية. في كل كتبي، عدا «أفروديت» وثلاثية للشباب البالغين، كنت أناقش قضايا سياسية واجتماعية، ومشاكل النساء والأطفال، العنف، الموت، الفقر، وكل من يواجه العنصرية أو التمييز. هل تعتقد حقًا أنني أجلس على مدرج السيرك، بينما الأسد يفترس ضحيته؟ * بما أننا تطرقنا إلى جائزة نوبل دعيني أسأل: في عام 1925 منح برنارد شو جائزة نوبل ورفضها قائًلا: « إنني أغفر لنوبل أنه اخترع الديناميت لكني لن أغفر له هذه الجائزة!»، كذلك بوريس إسترناك التي منحت له رغم أنه لم يكتب سوى رواية واحدة لأنه انتقد النظام الشيوعي البلشفي في روسيا حيث تشير الكثير من التقارير أن المخابرات البريطانية والأمريكية هي التي تدخلت لمنحه، كذلك سارتر الذي وصفها بأنها مميتة، وهناك أيضًا الكثير من الشواهد التي تجعلني أتساءل هل ثمة موضوعية في جائزة نوبل تؤهلها لأن تكون عالمية؟. - معظم الكتّاب سيتفقون معك في أن جائزة نوبل تمنح في معظم الوقت لأسباب سياسية، وأنها ليست عادلة، لأنه لا توجد لجنة بإمكانها أن تقرأ كل الكتب في كل اللغات، ثم تقرر أفضلها. ولكنها أكثر الجوائز الأدبية قدرًا، واستطاعت أن تسلط الضوء على كتّاب لم يكن يعرفهم أحد حول العالم. * أنا شخصيًا لا أجيد الوداع.. وكل ما أريد أن أقوله في نهاية الأمر أننا سنظل نحبك مهما كانت التكلفة؟ - أوه! شكرًا جزيلًا لك! كلماتك أراحتني. علي القول بأن أسئلتك كانت صعبة علي. أحسست بأنني لا أروق لك.