لم يتحوّل رجل الدين في إيران إلى حاكم فحسب، وإنما تحوّل إلى رجل يصنع هوية/ طبيعة النظام. لم يصبح النظام نظاماً دينياً يتشارك الجميع في إدارته، بل أصبح نظاماً دينيا مُغلقاً على رجال الدين. أصبح النظام هناك بائساً من ناحيتين: ناحية ثيوقراطية النظام على مستوى الدستور والأنظمة، وناحية أن رجال الدين هم الذين يحتلون فعلياً المناصب الحاسمة في مسارات صنع القرار الإيراني تبقى السياسة هي السياسة في قانونها العام، وتبقى غرائز الإنسان السلطوية هي ذاتها؛ بصرف النظر عن هوية هذا الإنسان. ومن هنا، وثق الغرب بالنظام/ التنظيم، لا بالأشخاص، فبحث عن النظام الصالح، وليس عن الحاكم الصالح؛ لأن النظام أضمن وأدوم وأعقل وأعدل، والنظام الصالح يأتي بالشخص الصالح، ويُصلح أو يُبعد غير الصالح. وبالتالي، فلا تعويل على صلاحية الأشخاص؛ مهما كانوا. فرجل الدين حتى ولو كان صالحاً ورعاً؛ لن يصبح إلا سياسياً في الموقع / المسار السياسي الذي يعمل من خلاله. ولن تكون الاستثناءات النادرة جداً (إلى درجة كونها شذوذاً في التاريخ، إلى درجة انخراطها في التصور/ التمظهر الإعجازي) إلا تأكيداً لهذه القاعدة التي يجب أن تكون هي محل الاعتبار العملي في كل الأحوال. الشيخ الأصولي الجزائري/ علي بلحاج، هو اللسان الناطق بما تُكنّه الأصولية العربية، هو اللسان الصريح الذي يكشف الأوراق من آخرها. لقد كانت الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الجزائر تُقدّمه على أنه خميني الثورة الجزائرية المرتقبة بداية التسعينيات؛ عندما كانت تتوسل الديمقراطية للوصول إلى حكم الجزائر ابتداء، ومن ثَمَّ الانطلاق في مشروع الخلافة الأممية العابرة للأوطان. المهم أن علي بلحاج قال بصريح الأقوال ما قاله الخميني بصريح الأفعال. فإذا كان بلحاج يقول: "عندما نكون في السلطة، لن تكون هناك انتخابات لأن الله سيحكم" (نشوء الإسلام الراديكالي وانهياره، راي تاكيه، ص81)، فإن الخميني كان أشد ذكاء؛ عندما أسس لنظام انتخابي تجتمع كل تعقيداته القانونية لتكون رهن إشارة الولي الفقيه الذين يزعم أنه ينوب عن الإمام، وبالتالي، يزعم أن "الله يحكم" من خلاله. وهذا هو النص العملي/ التطبيقي لمقولة علي بالحاج. وفي كلتا الحالتين، ليس ثمة انتخابات ولا ديمقراطية؛ لأن الديمقراطية – كما يؤكد الخميني قبل بلحاج – إجرائية مستوردة من الأمم الكافرة المستكبرة. لقد قامت الثورة الإيرانية كثورة تحررية في الأصل. صحيح أن رجال الدين، وبحكم النظام المرجعي، كانوا هم الأقدر على تثوير الشعب إلى الدرجة التي تضمن التغيير الجذري للنظام السياسي، إلا أن الحرية/ التحرر من الاستبداد / العدالة الاجتماعية، كانت هي الغاية الشعبوية للأغلبية الساحقة من الثائرين. لم يكن الالتفاف حول رجال الدين/ الخميني إلا نتيجة الاعتقاد بأنهم الأعمق تأثيراً؛ لكونهم الأقدر على الحشد الشعبوي، فضلاً عن الإحساس الجماهيري الساذج الذي يتصور أن الورع الديني الذي ترتفع وتيرته – افتراضاً أو حقيقة – في سلك رجال الدين، هو الضامن للوعود الثوروية؛ حتى لا تكون تلك الوعود مجرد مطية لانتهازية الحالمين بتغيير شخصيات المستبدين؛ من أجل الإبقاء على هوية الاستبداد بمؤسساته الراسخة، وبثقافته/ تقاليده الطاغية. ومن هنا، فالجماهير وثقت برجال الدين؛ لأنها تصورت أن رجال الدين هم المؤتمون على ثمار الثورة المتوقعة/ استحقاقات الحلم التحرري؛ لأن (السوابق الورعية) أوحت لهم بأن رجال الدين سيتورّعون – بدافع وَرَعي - عن سرقة أحلام الجماهير البائسة؛ حتى ولو كانت السلطة الفاتنة هي فتاة الإغراء الباذخ!. لم يتحوّل رجل الدين في إيران إلى حاكم فحسب، وإنما تحوّل إلى رجل يصنع هوية/ طبيعة النظام. لم يصبح النظام نظاماً دينياً يتشارك الجميع في إدارته، بل أصبح نظاماً دينيا مُغلقاً على رجال الدين. أصبح النظام هناك بائساً من ناحيتين: ناحية ثيوقراطية النظام على مستوى الدستور والأنظمة، وناحية أن رجال الدين هم الذين يحتلون فعليا المناصب الحاسمة في مسارات صنع القرار الإيراني. وبهذا تضاعفت ثيوقراطية الدولة الإيرانية؛ لتصبح دولة العمائم التي يحلم بنموذجها (الأفندية المتأسلمون) في عالمنا العربي. لقد لاحظ مهدي بازركان، أول رئيس للوزراء بعد انتصار ثورة الخميني، خطورة هيمنة رجال الدين على الدولة، خاصة عندما يزعم رجل الدين – بشكل مباشر أو غير مباشر - أنه يحكم باسم الله. يقول بازركان بعدما خاض غمار تجربة واقعية مريرة مع تسييس الدين ومع تغوّل رجال الدين: "إذا ما ذهب دين من الأديان، أو زعيم ديني ما، إلى اعتبار نفسه نائباً عن الله، مفوضاً بمهمة تأسيس سلطته على الأرض والبشر.. متجاهلاً احتياجات الإنسان الدنيوية من حيث هو إنسان، فسوف يتسبب هذا في إشاعة الاستعباد والعنف" (الإسلاموية والحداثة، الخطاب المتغير في إيران ص243). واضح أن بازركان يقصد الخميني بالدرجة الأولى؛ لأنه هو الزعيم الديني الذي ذهب يقيم نظاماً تسلطياً باسم الله، مما نتج عنه الاستعباد والعنف، إلى درجة إقصاء رفقاء الدرب؛ حتى من كبار رجال الدين. فرجل الدين بطبيعته/ طبيعة وعيه الإيماني اليقيني، يتدرج في الإطلاقية إلى أن يصل إلى اعتبار رؤيته الخاصة، المبنية على اجتهاد ظني، هي الحق المطلق الذي لا يجوز لأحد مخالفته. إنه يتصور مخالفي رؤيته أعداء للدين ذاته؛ حتى لو كانت رؤيته التسلطية الخاصة مجرد رأي مرجوح في سياق المنظومة العقدية التي ينتمي إليها، كما هو الحال في مسألة: ولاية الفقيه. لهذا، لا غرابة أن نجد الخميني يؤسس نظامه على أساس ولاية الفقيه المطلقة، ويؤكدها بلغة جازمة توحي بأن الأدلة متضافرة على تأكيدها؛ مع أنها (= الولاية المطلقة) اصطدمت بمعارضة كثير من آيات الله/ المراجع، حتى قال المرجع الكبير/ الخوئي ما نصه: "لا تثبت الولاية للفقهاء في عصر الغيبة بأي دليل. وإن الولاية تختص بالنبي (ص) والأئمة (ع) وما يمكن إثباته من الروايات للفقهاء أمران هما نفوذ القضاء وحجية الفتوى" (إيران بين ثورتين، ص39). لكن، ومع كونها خلافية، بل ومحل رفض مراجع كبار، فقد تم ترفيعها – لضرورات الهيمنة السلطوية - لتصبح من الأساسيات عند مؤدلجي النظام. عندما يتحدث الباحثان: راي تاكيه، ونيكولاس غفوسديف، عن رئيس السلطة القضائية السابق/ آية الله محمد يزدي وأمثاله من الراديكاليين المتنفذين في الجمهورية الإيرانية، يصلان إلى نتيجة مفادها أن "هذه الجماعة الراديكالية تزدري بصراحة الحكم الديمقراطي وتُنادي جهاراً بفضائل الحكم المطلق". وينقلان قول يزدي عام 2001م: "برأيي، يجب قبول حكم مطلق إذا كان عقلانياً. والحكم المطلق الحقيقي يعني إطاعة القضاء الإلهي" (نشوء الإسلام الراديكالي وانهياره، راي تاكيه ونيكولاس غفوسديف، ص63). وهكذا، نرى كيف تحوّل رجال الدين من مجرد مجتهدين لإقامة نظام عادل، إلى محتكرين للسطة، بل إلى محتكرين للحقيقة الإلهية، وبالتالي، إلى دعاة صرحاء للحكم المطلق الذي يزعمون أنه هو قضاء الله، وأنهم – تبعاً لذلك – لا ينفذون إلا قضاء الله. ويترتب على ذلك أن من يعترض عليهم أو على أحكامهم فإنما يعترض على قضاء الله! يرصد فهمي هويدي السنوات الأولى لانتصار ثورة الخميني، بل ويعاين أحداثها من خلال رؤية مباشرة في كثير من الأحيان. يذكر هويدي أن تلاميذ الخميني - الذين طالما انتفضوا غضباً من دكتاتورية الشاه - ذهبوا إلى الهجوم على معارضي ولاية الفقيه، وهتفوا: الموت لمعارضي ولاية الفقيه (إيران من الداخل145). يحدث هذا الإقصاء والنفي الطغياني، والإيديولوجيا المتطرفة لم تتمأسس بعد، والخلاف الفكري/ الفقهي حولها لا زال قائماً على أوسع نطاق؛ فكيف سيكون الأمر بعدما أصبحت هذه الولاية من مسلمات الواقع، ومن قطعيات الإيديولوجيا المنتصرة؟! هكذا هو الخطاب المتطرف، بل هكذا هو الخطاب الفقهي في خطه التقليدي الذي يؤسس لذهنية، قبل أن يؤسس لمقولات. إنه يمسك بفكرة جزئية يعتقد أنها تدعم مواقفه السياسية أو الأخلاقية، ثم يمارس عملية تصعيدها؛ لتصبح من الأصول، ومن معالم الهوية، بل ومن المعلوم من الدين بالضرورة، ثم يقوم بإقصاء من يخالفها أشخاصاً وأفكاراً، ثم يُبدي استعداده لخوض أشرس الحروب من أجلها. ومن هنا، لم يتجاوز جورج طرابيشي الحقيقة عندما قال: "والواقع أن ميل الفقهاء إلى التشدد وإلى تصعيد الأحكام والعقوبات هو ميل ثابت ودائم عند أكثرهم" (إشكاليات العقل العربي ص68). فعملية التصعيد هي نمط ذهني عند كل السلفيات/ الأصوليات، خاصة تلك التي تجنح إلى خيارات الطهرانية المحافظة اجتماعياً، أو إلى خيارات المواجهة الثورية سياسياً، فهذه لا تنفك عن مزايدات تصاعدية تنتهي إلى أشد صورة التطرف والانغلاق. يمكننا أن نرى خير شاهد على هذا التصعيد في السياق الإيراني، حيث تحوّلت مسألة سياسية لا يوجد عليها "أي دليل" - كما يقول الخوئي - إلى قضية قطعية، أقامت – بموجب قطعيتها وشموليتها – الوليَّ الفقيه مقامَ النبي أو الإمام في وجوب الطاعة، وعدم المخالفة؛ مع علمها بكل استحقاقات هذا الربط في السياق المذهبي، حيث سيبوء كلُّ مَن عصى الولي الفقيه الذي يدعي النيابة المطلقة عن النبي أو الإمام، بإثم معصية النبي أو معصية الإمام! عندما تأخذ النظام الإيراني كنموذج واقعي للدولة الدينية المطروحة نظرياً في العالم العربي، يتأكد لك أنه لا يمكن لنظام ديني يصنعه المهووسون بالإطلاقية الدينية إلا أن يكون استبدادياً؛ مهما حاول أن يبدو منفتحاً على شكلانية ديمقراطية ليس لها من دور إلا تنظيم مسارات الاستبداد في النظام. وبسبب هذه الإطلاقية الدينية المتعالية الملازمة لكل حالات التَّدين الوثوقي، لا مكان للشراكة الواقعية ولا للتوافق الطوعي؛ إلا على سبيل الاضطرار، لا الاختيار. ولهذا من الطبيعي أن " تقاوم السلطات الدينية ما ترى فيه مخاطر توفيقية" (الجهل المقدس، أوليفيه روا ص32)؛ لأن الإجرائيات التوافقية، فضلاً عن الأفكار التوافقية، تهدد الأساس الدوغائي الذي يتأسس عليه الاستبداد الديني في الواقع. في هذا السياق الذي نتحدث فيه عن إيران تحديداً، لا بد من التأكيد على أن الاستبداد والانغلاق والجمود ليس خاصية إيرانية، ولا خاصية مذهبية، وإنما هو حالة لازمة تُرافق كل صور الهيمنة النافذة لرجال الدين أينما وُجدوا. هذا ما لاحظه أحد المتخصصين في علم الاجتماع الديني/ موريس هالبواش، عندما أكّد أن "الدين بحكم طبيعته كعلاقة مع الماضي، مكرس للانغلاق والثبات على حالة جمودية منتزعة من التاريخ" (سوسيولوجيا الدين، دانيال هيرفيه ليجيه، ص285). فرجل الدين يدور في فلك لحظة زمنية لا يتجاوزها، لحظة ثابتة، لا يستطيع الخروج منها، فضلاً عن الخروج عليها. ومن هنا لا بد وأن يجد نفسه في تضاد مع التطور المدني/ الزمني الذي هو روح الحياة السياسية القادرة على النمو الإيجابي، النمو المتجاوز لنفسه باستمرار، بوصفه حالة نمو في التاريخ. لا يتماهى رجال الدين مع الديمقراطية إلا في حالات الاضطرار. لو كان الأمر بيد رجل الدين لما طرح أية صورة من صور الديمقراطية، ولا حتى هذه الديمقراطية الصورية ذات الطابع الاستبدادي. لو كان الأمر بيد رجل الدين لأقامها ديكتاتورية خالصة، ديكتاتورية مطلقة. أليس هو الذي يملك – وحده كما يدعي صراحة – الحقيقة الخالصة، واليقين المطلق؟! لم يتمظهر رجل الدين بالديمقراطية اختياراً، ولكنه اضطر إلى ذلك؛ بعد أن أصبحت الديمقراطية هي هوية المشروعية العصرية لكل صور التحرر الإنساني. اليوم، يدرك رجل الدين أن أفق التحرر الإنساني - الذي لا يتجسد إلا في أرقى صور التمثيل الديمقراطي - بات غاية إنسانية عامة، بحيث لا تستطيع حتى أشد الشعوب تقليدية أن تخفي هوسها به. ومن هنا، أصبحت مشروعية الديمقراطية مشروعية عليا حاكمة على ما سواها من رؤى وتصورات. وبالتالي، لا يجد رجل الدين بُداً من إخضاع مقولاته لها ولو على سبيل المراوغة بالتوفيق القائم على التلفيق. إذا استحضرنا هذه المشروعية الطاغية للديمقراطية في وعي الإنسان المعاصر؛ عرفنا سبب اضطرار رجال الدين للتماهي معها صورياً، في الوقت يغتالونها فيه عملياً. إنهم يمارسون ذلك بطرق واعية وغير واعية، وهم لا يُغلبون على أنفسهم في هذا المضمار التسلطي؛ إلا لأنهم لا يتناولون مشروعية سلطتهم، ولا يُؤسسون لها إلا بالاتكاء على مقولات الأقدمين. يُحاجج كثير من المتعاطفين مع النموذج الإيراني بأن ثمة ديمقراطية دينية إيرانية، لا تقل إيجابية عن أرقى النظم الديمقراطية في العالم الحر، ويستشهدون بوجود الانتخابات الدورية الإيرانية: انتخابات مجلس الشورى، وانتخابات مجلس الخبراء، والانتخابات الرئاسية...إلخ، التي تحكي – في تمظهرها الدعائي - أن القرار ليس احتكارياً. في المقال القادم سنلقي – بإذن الله – نظرة على أنظمة هذه المجالس المنتخبة وعلى صلاحياتها، وسنرى: هل هي داعمة للدكتاتورية الثيوقراطية كما نزعم، أم هي أداة للحد من تغوّل الدكتاتوريين كما تزعم جمهورية رجال الدين؟